ناجي شاكر مؤسس مسرح العرائس في مصر:
متابعة الصباح الجديد:
في العراق وأغلب دول الوطن العربي يمارس المسلمون طقوس عدة في يوم المولد النبوي، ومن ضمنها متابعة أوبريت الليلة الكبيرة للشاعر صلاح جاهين والملحن سيد مكاوي.
مضى على إنتاج الأوبريت عدة عقود وقبل أن تدخل التلفزيونات الملونة الى البيوت، لكن حتى بعد أن دخلت الألوان الى التلفاز وأصبحت جزءا من جمالية المعروض ظل أوبريت الليلة الكبيرة بلونيه الأسود والأبيض يحمل نكهة وجمالية خاصة، “اليوم تم تلوينه بواسطة الكمبيوتر”، لكن كيف وما هي الظروف التي دفعت جاهين الى كتابة احداث الاوبريت.
إثر خلاف عائلي لا يُعرف سببه، قرر الشاعر المصري صلاح جاهين (1930-1986) ترك منزل عائلته والسكن لبضعة أيام عند صديقه سيد مكاوي (1927-1997) في غرفته المستأجرة بضاحية السيدة زينب في القاهرة، والتي كانت تشهد في ذلك الوقت إحياء مولد السيدة زينب، في مطلع خمسينيات القرن العشرين.
تمخضت جلسات المبدعين معا في أجواء خاصة يضفيها المولد على المكان، إلى تدوين جاهين خواطر شعرية مستوحاة من تلك البيئة، لحنها سيد مكاوي لتنتهي في صورة أغنية مدتها عشرة دقائق، ولما كانا في حاجة الى المال قررا الخروج بخواطرهما إلى النور، فسجلاها في الإذاعة المصرية مقابل بضعة “مليمات”.
هنا كانت البداية الأولى للأوبريت الأشهر في مسرح العرائس المصري “الليلة الكبيرة” إخراج المخرج الراحل صلاح السقا، والتي تحتفظ برونقها إلى الآن وتعرض بصورة مستمرة.
لكن كيف تحولت الأغنية ذات العشر دقائق إلى أوبريت مسرحي (نحو40 دقيقة) فاز خلال عرضه للمرة الأولى ضمن مهرجان بوخارست الدولي للعرائس بالمركز الثاني عام 1961؟
الإجابة عند رائد مسرح العرائس في مصر الدكتور ناجي شاكر (85 سنة) الذي لم يقتصر فضله على التصميم الخاص لعرائس “الليلة الكبيرة” والذي ثار فيه على المدرسة اليونانية الرائدة آنذاك، بل كان أول من أدخل مسرح العرائس في مصر، ليكشف للمرة الأولى عن كواليس العرض والمسرح، ويفسر الحالة الرثة التي يعانيها مسرح العرائس المصري حالياً.
كانت الإذاعة المصرية-الوسيلة الإعلامية الأولى- تذيع أغنية الليلة الكبيرة بصورة مستمرة منذ تسجيلها، وتعلق بها آلاف المستمعين، غير أن أحدهم ظلت عالقة في ذهنه بصورة خاصة، وكان طالباً في كلية الفنون الجميلة، وفضلاً عن ذلك تلقى الفنون في صغره من مدرسين أجانب في منزله، فخرج متذوقاً للفن وعارفاً قيمته.
كان ذلك الطالب ناجي شاكر نفسه. ويقول: “تعلقت بالأغنية وكنت في العام الأول بالكلية، لكن قرار تحويلها إلى أوبريت عرائسي جاء بعد نحو عشر سنوات، فوقتها لم تكن مصر قد عرفت مسرح العرائس بشكله ذاك بعد، وكان الأمر مقتصراً على الفنون الشعبية التي تعتمد على الدمى مثل الأراجوز وخيال الظل”.
ويضيف شاكر: “خلال سنوات الدراسة في الجامعة، لم يكن الفيديو انتشر بصورة كبيرة، لذلك كنا نلجأ إلى السفارات الأجنبية لاستعارة شرائط لأحدث الأفلام العالمية، أحدها كان له الفضل في اهتمامي بمسرح العرائس، وهو فيلم “حلم ليلة صيف” لجيري ترنكا، فيلم كامل للعرائس مأخوذ عن أحد نصوص شكسبير. انبهرت بذلك الفيلم وقررت أن أخوض تجربة العرائس في مشروع تخرجي عن القصة الشعبية المتوارثة “عقلة الأصبع”، وكان وقتها المشروع الأول من نوعه.
ولكن لماذا فن العرائس تحديداً؟ يجيب شاكر: “أنا نفسي توقفت أمام هذا السؤال، أؤمن أن تلك الدمى تملك سراً غامضاً.
حضرت عرض عرائس لفرقة هندية في الأوبرا تحكي قصة حياة “غاندي”، والذي مثلته دمية صغيرة استطاعت أن تملأ فراغ المسرح على الرغم من مشاركة العنصر البشري في العرض وارتدائهم الأقنعة الضخمة.
تلك الدمى قادرة على تنوير العالم، العروسة خبأت سرها في صندوقها ولم تطلع أحداً عليه، ومن ضمن أسرارها أنها ما زالت قادرة على جذب انتباه جيل من الأطفال والكبار شبوا على التكنولوجية والأفلام ثلاثية الأبعاد”.
يرجع شاكر بذاكرته إلى عمر الخمس سنوات، وعندها يؤرخ إلى غرس فضوله الأول تجاه الدمى، وقتها كانت تجمعهم مراهقة ريفية لتحكي لهم القصص الشعبية، ومن تلك الفتاة استمد قصة مشروع تخرجه “عقلة الأصبع”، وخلال تلك الجلسات كانت الفتاة الريفية تقص عروساً من الورق، وتبدأ في وخزها بالإبر مرددة أسماء بعينها من الجيران والمحيطين، اعتقاداً منها أن ذلك يقي من الحسد.
ويقول شاكر: “كانت تفعل ذلك بإيمان شديد وتركيز، فكنت أتساءل أي قوة في تلك الورقة الهشة «العروسة» كي تقي من الشرور… أعتقد أن تلك الواقعة أثرت في تكويني وأثارت الفضول الأول نحو ذلك الفن”.
تأسيس مسرح العرائس
تأسست الفرقة الأولى لمسرح العرائس في مصر عام 1958 قبل نحو ست سنوات من افتتاح مبنى المسرح في وسط القاهرة. ويقول شاكر: “تواصلت معي وزارة الثقافة للانضمام إلى فرقة كانوا يأسسونها تحت إشراف مدربين رومان، تكونت من تسعة أعضاء فقط، أنتجنا تحت إشرافهم عرضين، وقبل رحيلهم عام 1960 طلبوا مني إنتاج عرض خاص مستمد من البيئة للمشاركة به في مهرجان بوخارست، وهنا تذكرت أغنية الليلة الكبيرة، وطلبت من صلاح جاهين الذين كان شغوفاً بذلك الفن ويشاركنا تحريك العرائس إضافة إلى مشاهد أخرى حتى تتحول الى أوبريت مسرحي، وعلى الرغم من قلقه من الفكرة في البداية فإننا استطعنا اكمالها، وخرج الأوبريت بالصورة التي يراها الناس حتى اليوم”.
هل توقعتم ذلك النجاح الكبير وتلك الاستمرارية؟
يضحك ويعلق: “وهل كان من الممكن أن نتوقع ذلك، لقد انتجنا الأوبريت في ثلاثة شهور فقط، تطلب ذلك عملاً متواصلاً، حتى أننا لم نقم إلا ببروفة واحدة سريعة وسافرت العرائس بعدها للمشاركة في المهرجان، كان نجاحها الأول في المهرجان مفاجأة لنا، ومن ثم النجاح الثاني حين عرضت جماهيرياً لدى عودتنا، ونجاحها الثالث استمراريتها، وبفضلها أُسس مسرح العرائس”.
وعن تأسيس المسرح يقول شاكر: “لدى عودتنا قدمنا مشروعاً متكاملاً إلى وزير الإرشاد القومي- الثقافة حالياً- ثروت عكاشة لبناء مسرح عرائس. كان ذلك في عام 1961، ومن ثم سافرت في بعثة وعند عودتي عام 1963 فوجئت بمسرح العرائس قد بني على الصورة التي قدمناها بالضبط، ومن ثم افتتح بعد سنة.
ويوضح: “وهنا تبرز فكرة الإرادة التي نفتقدها حالياً، وإليها يعود تراجع مسرح العرائس على الرغم من وجود المواهب الشابة المهتمة بذلك الفن، وتأسس له فرق مستقلة”.