وهو يمسرح سيرة كبار المبدعين
حاوره: عبد العليم البناء
الفنان والكاتب والمخرج والناقد ا.د. عقيل مهدي، كان وما زال من العلامات الفارقة في الذاكرة المسرحية العراقية، بل والثقافة العراقية، فقد ارتقى منصات البوح عبر فضاءاته الجمالية، واستنباطاته الفلسفية، وبناءاته التكوينية لعناصر العرض المسرحي، الذي حقق فيه أعلى درجة من درجات الاستجابة المثلى، على مستوى الفرجة الشعبية والنخبوية، من خلال أعماله المسرحية المتنوعة، التي شدت إنتباه المتلقي والناقد في آن واحد.
ولعل من بين أبرز ابداعاته المتفردة، ريادته في إطار (مسرح السيرة)، الذي تميز به، محليا وعربيا، لنخبة من كبار مبدعي العراق، إبتدأها بمسرحية (يوسف يغني)، وكان العمل تأسيسا لـ(مسرح السيرة)، خاضها مع طلاب كلية الفنون الجميلة آنذاك، وتوالت مسرحياته ومنها : (جواد سليم يرتقي برج بابل)، و(السياب)، و(الصبي كلكامش)، و(ظرفاء بغداد مع قاسم محمد)، و(الجواهري)، و(الحسين الآن) وغيرها، وصولا الى (علي الوردي وغريمـه)، التي أخرجها زميله الدكتور قاسم مؤنس.
مع الأستاذ الدكتورعقيل مهدي يوسف، و(مسرح السيرة) نتحاور:
* من بين تجاربك المتنوعة في التأليف والإخراج المسرحي نهضت بمهمة مسرحة سيرة نخبة من كبار مبدعي العراق.. ما السر الذي دعاك الى هذا الجهد وهل سبقك أحد الى هذا الأمر؟
– ليس ثمة أسرار في اللعبة المسرحية – حسب بيتر بروك – المهم، هو التحفيز الفني للمتلقي، عبر أسماء شكلت منعطفات بطروحاتها المفصلية في حقول تخصصها، سواء من داخل السياق الفني المسرحي (الداخلي)، أم من خلال السياق (الخارجي) الموازي، تأريخيا، واجتماعيا، لبطل السيرة الافتراضية. وهم حقا « نخبة « ولكن ليس بالمعنى التقليدي، للابراج العاجية، التي تفصل المبدع عن جمهوره، بل تراهم يؤسسون لقيم مجتمعية متقدمة، بأفكار نيرة، وهموم وطنية متميزة، وبمواقف عضوية تروم البناء، والتغيير، والقطيعة مع الجانب المتخلف في العادات، وأنماط التفكير الزائفة، والمحنطة.
ربما تطورت تجربتي في هذا الإطار، بعد أن أردت الانتقال تأليفا واخراجا، من تحويل النمط الحياتي الخاص بالمبدع، الى لغة ترميزية وتعبيرية على المستوى الحسي، ومخاطبة الجمهور بلغة مؤثرة تقوم على التأويل، لا المحاكاة السطحية لهذه الشخصية، أو تلك، فهذا من شأن المؤرخ وليس الفنان.
لا يحدث (السبق) في طفرة، بتناول الشخصيات مسرحيا، خذ مثلا برومثيوس، أوديب، وسواهم، ستجد الكثير من المسرحيات العالمية، موثقة بأسماء محددة، ولكني أجد أن الأمر الجوهري هو في الرؤية الجديدة، والحبكة البنائية المتخيلة، وفي الاتجاه الجمالي الذي راهنت عليه في العملية التواصلية مع الشخصية وجمهورها، في اطار شمولي جامع جديد، وكمثال على ذلك أن (يوسف العاني) حين شاهد عرضا عن شخصيته، قال لي: لقد جعلتني أبكي وأضحك من هذا الشخص الذي اسمه يوسف العاني! وحفزتني على التعرف عليه من جديد.
* إذا كان الأمر كذلك هل يمكننا إطلاق صفة رائد مسرح السيرة في العراق عليكم؟ وهل هنالك من خاض ما يشابه تجربتك الإبداعية هذه؟
– حين نوقشت أطروحة دكتوراه بإشراف أ.د سامي عبد الحميد عن تجربتي قلت بالنص: لم تكن مسرحيات السيرة في المسرح العالمي، تشبه ماأقدمه أنا في المسرح العراقي، وتفسير ذلك، هو تعاملي مع الوقائع الحياتية للشخصية، فأنقلها من أفق الماضي، الى أفق افتراضي مستقبلي، فيه سحر المسرح، ودهشته، وفيه كسر أفق التلقي، لأمنح المتفرج مساحة جمالية حرة، تجعله ينظر الى هذا البطل من منظور ابداعي جديد، وكأنه يشاطره الحضور الآني في جو من التفاعل الخلاق.
قد تكون الريادة في هذا البعد المفارق للشخصية، التي امتصها المسرح، وأعاد بناءها تعبيريا.
* وما القاسم المشترك الذي وجدته بين هذه الشخصيات من مواقف، وهموم، وتطلعات استنبطتها من سيرتها؟ ولماذا هؤلاء بالذات؟
– الفنان المسرحي، لايجد خيارا له بعيدا عن مجتمعه، وهمومه، بل يحاول أن يضع تصميما مبتكرا، وليس قناعا خارجيا لشخصية منعزلة، بل شخصية يشاطرها تطلعاتها، في بنية زمانية، ومكانية، واسلوبية جديدة، تتمرد على المقاييس الجامدة والساكنة، الخارجة عن حساسية العصر، والزمن المعاش، وقادرة على التفوه بشفرات خاصة تحفزنا على تفكيكها، والوصول الى ايماءاتها السرية، وأنساقها الجمالية المنفتحة، على فضاءات غير متحفية.
* وأي الشخصيات كانت الأصعب وأنت تتجه لمسرحة ومعالجة سيرتها دراميا..؟
– التعامل الإبداعي مع الشخصيات فيه جزر ومد، ومتعة وألم، واضطراب وسكون، ولكل منها، يبقى التحدي الذي يقودك الى أي عالم مسرحي ستقوم بإبتكاره، وأية حوارات، وصراعات، ومصائر واحداث، وأحداث واجواء يتعين عليك هندستها، وتصميمها، لتجعل المتفرج يبوح مع نفسه، أن الشخصية الفنية الحاضرة على المسرح، تضارع في قوتها واستقلالها، تلك الشخصية التي باتت طيفا من الذاكرة، ونقشا في المدونة التأريخية السالفة.
* هل نتوقع أن تكون لديك جولة أخرى مع شخصيات عراقية تأليفا وإعدادا وإخراجا؟
– خلق الدهشة في الفلسفة الجمالية، أمر يدعو للتأمل، ربما تقودنا الثقافة في زمن التكنلوجيا، وصراعات الأيديولوجيات الكبرى، والعولمة، الى مقاربة شخصيات جديدة، وتستحق منا العناية والانتباه، ولكن هذا الامر لا يتحمل التوسع الارادي الكيفي. هنا ينبغي التكثيف، والاختيار والاختمار اللاشعوري، الذي يشع فسفوره المضيء من داخل تضاريس مسرحية غير جاهزة، لكنها تتوفر على ضرب من الغواية الشعرية المجنحة التي تقودك الى جزر متخيلة، لكنها قابلة لإستقبال كينونة أبطالك المفترضة، في مدائنها العجائبية، ولا يخرب هذه الاحلام المسرحية، سوى اقتحام خلوتك الملائكية هذه بالنثر الواقعي، بسردياته التوثيقية الخالية من الروح الدراماتيكية المطلوبة.
* ما الرسالة التي أردت إيصالها عبر هذا الخيار الإبداعي؟ وما مدى الاستجابة المتحققة؟
– وجدت مخرجة وباحثة إنجليزية أعجبت بمسرحية (السياب) في مهرجان القاهرة، وهناك مخرج تونسي مجدد، ونقاد عرب من مصر، والمغرب، ولبنان، وكذلك من مثقفين عراقيين ودراسات أكاديمية، وطلبة معاهد وكليات وفرق شعبية، وأساتذة مخرجون لأعمالي، هو مايشجعني على المضي، قدما في تطوير تجربتي المسرحية هذه.
كان ( تشيخوف)، يرى أن بإمكانه أن يصنع قصة مؤثرة، من شيء عادي، وشكسبير يرى أن حصانا صغيرا ، يمكن أن يحقق سبقا في مضمار التنافس مع الكبار، إذا كان نشطا . رسالتي المسرحية، هي في طموحي لاعلاء شأن كبار مبدعينا العراقيين، والعرب، والعالميين، الذين أثروا وجدان شعوبهم، وترجموا لهم آمالهم، ومهدوا لهم جسورا راسخة للعبور نحو المستقبل. فهم ليسوا أفرادا منعزلين، بل هم بناة يشركون معهم شعوبهم لتحقيق صبواتهم.
* على ماذا كنت تراهن جماليا وفكريا وإبداعيا وأنت تقدم على هذه التجربة سيما أنك لجأت الى خيار إخراجي تسجيلي وربما توثيقي؟
– الجمال في الفن، ينتقل بالتوثيقي أو التسجيلي، الى جوانب غير مرئية فيه، بل هو يحاول أن يبتدعها، ويجعلها حافلة بالمسرات والمتع البصرية، والسمعية، والحركية، ويحرك أنساق المضمرات ويفجر تياراتها الداخلية، ويوحي لنا بعوالمها الخفية، الملونة، بسحر البؤر المسرحية وجاذبيتها لجمهور يصغي لطقوسها الجمالية، سواء كانوا كبارا، أم صغارا، بروح ديمقراطية سمحة، وبإنسانية رفيعة.
* لو طلب منك وأنت الناقد الجمالي المعروف تقديم قراءة مكثفة ومحايدة ومجردة عن هذه التجربة شكلا ومضمونا وأين سيتوقف قلمك سلبا وإيجابا؟
– المسرح عمل جماعي، في قراءتي لتجربتي، أجدني بحثت عن درب مسرحي، فيه الكثير من الإنجاز، ووفرت فرصة لطلبتي، في الدراسات الأولية، والعليا، لكي يدلوا بدلائهم عنها، وقد أخرج الطلبة والأساتذة بعضا من مسرحياتي، ومازلت أحاول تطوير مساري هذا، برغم معوقات إنتاجية، تحول دون تقديم نصوص جديدة، وكذلك أنحسار بعض المبدعين من الممثلين، والتقنيين، لمؤازرتي، في محنة مسرحنا العراقي والعربي، المتعددة الأوجه، والحافلة بالمفاجآت.
* كلمة أخيرة …
– سأرى يوما، أن السيرة الافتراضية، ستصبح خيطا حريريا في عروض إبداعية جديدة، لها نسيجها الشبابي الخاص، والأكثر امتدادا في مسرح جاد وجماهيري حقيقي، جميعنا نتطلع اليه.