يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 7
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: مرافعات معينة لكم علقت بذاكرتكم ، هذا هو الجزء الأخير من السؤال على ما اعتقد .
أي شخص مارس صناعة القانون ، محاميا او قاضيا يتعذر عليه ان يخرج من دائرة ذاكرته قضايا معينة ، اختارها لتستقر فيها وتنفذ عميقا لتغدو جزءا من ذكرياتها لا يتجزأ . والاعتزاز بها او الكره لها ليسا بشرط ولا بسبب يدعو الى رسوخها في الذهن لكنها تستمد حياتها الطويلة فيه اما لطرافتها او لغرابة نتائجها او لطبيعة المختصمين وذوي العلاقة فيها او بمدى ما خلفته من اثار في ضمير الرأي العام او بما خلفته من اثار قانونية كسوابق . وسأصدقك الخبر . فقد بدأت افكر فيما سأختاره قبل ان اصور في ذهني هيكلا للجواب على هذا السؤال وادركتني الحيرة فهناك الكثير والكثير مما لم يبرح المخيلة . خصوصا وقد كان من سوء طالعي ان اعالج قضايا معقدة لتغدو بالنتيجة سوابق قضائية يستند اليها فيما بعد بقضايا مماثلة . والاختيار على اي حال يعتمد على ذوقي ولا مجال هنا لاستخراج رأيك سامعا ، او رأي الاخرين قراء . وقد قر رأيي على اختيار هذه الثلاث . واولها قضيتان مزدوجتان في الواقع الا انهما التحمتا في اعطائي درسا خلقيا عظيما اجمله بهذه العبارة : ” ان الاستقامة وسمو الخلق قد تجدهما احيانا فيمن لا تتوقعهما عنده مطلقا . وان الحطة الخلقية والخسة قد تراهما فيمن لا تتصور ان يصوره لك خيالك يوما ما . وان مكارم الاخلاق لا تتحدد بوضاعة منبت او كرامة محتد او بخمول مركز اجتماعي او صعوده “.
سأحاول التبسيط واجتناب المصطلحات القانونية باعتذاري المسبق لرجال القانون والاسرة القضائية .
(س.ا) صاحبة ملهى او كاباريه او ما يطلق عليه من اماكن اللهو الليلية . استخدمت للعمل في ملهاها غانية او (فنانة) شهيرة بموجب عقد كتابي موقع ودفنت لها مبلغا قدره ثلاثمائة دينار مقدما . لكن الفنانة نكلت ولم تباشر عملها بل زاول العمل في مكان اخر . طلبت مني (س.ا) بحسب وكالتي عنها اقامة الدعوى على الناكلة لاستعادة المبلغ . وهو مبلغ كبير انذاك وبأعتبار قوة الدينار الشرائية ، بأمكانك ان تجعله ثمنا لسيارة جديدة صغيرة .
قضية بسيطة جدا لا تعقيد فيها بدت كذلك عندما اقر محامي( الفنانة ) بصحة توقيعها على العقد من دون ان تتسلم المبلغ . وكان على المحكمة اذ ذاك وبصراحة وحكم القانون ان توجه اليمين القانونية ل (س.ا) على انها سلمت المبلغ فعلا .
وطلب القاضي احضار موكلتي لتحليفها اليمين وجئت بها وافهمها القاضي بالصيغة . ولدهشتي وعجبي وجدتها ترتد خطوتين الى الوراء مستنكرة . وعبثا حاولت مع القاضي افهامها بضرورة حلف اليمين ان شاءت المحافظة على حقها . فأبت الى الاخير قائلة للقاضي : ها انت ترى حالي يا سيدي . لا اريد ان افقد بقية ديني الذي يمنعني عن حلف اليمين مطلقا .
وخسرنا الدعوة . لم اكن انتظر مفاجأة كهذه . لكن كانت مفاجأة اخرى في انتظاري يوم الغد فقد جاءتني موكلتي بأسمة منتصرة ووضعت مؤخر اتعابي على المكتب وهي تقول : “جاءتني الفنانة باكية وجثت امامي وراحت تقبل يدي طالبة المغفرة مؤكدة بأنها لم توعز لمحاميها بتوجيه اي يمين “. ثم ردت الي المبلغ كاملا .
بقيت حتى الساعة اعجز عن المفاضلة بين نبل المرأتين . واولاهما مسيحية وثانيهما مسلمة .
ولاكمال هذه الصورة للامثولة التي بسطتها دونك نظريتها: (ن.ج) اكبر اثرياء المنطقة وربما كان من الخمسة الاغنياء الكبار في البلاد كلها . عظيم القدر عظيم النفوذ. بعيد عن السياسة لكنه صديق حميم لمعظم رؤساء الوزارات المعروفين . يبدو دائما منشغلا ببناء إمبراطورتيه المالية من المشاريع التي استحدثها مصنع لصنع (اليشماغ ) يشتغل فيه عدد من العمال يتراوح بين ثمانين ومائة وعشرين تبعا لطلب السوق على الانتاج . ولا يعبأ مطلقا بتطبيق قانون العمل والعمال الساري لا سيما بخصوص ساعات العمل واحتساب الساعات الاضافية ولا بالعطل المفروضة لشغاليه في تلك الفترة فترة نشاط الاحزاب لا سيما مجهودات الشيوعيين في تنبيه العمال الى حقوقهم . ولذيوع خبري في اوسطاهم بألتزامي الدعاوى التي تتعلق بتلك الحقوق راجعني واحدا من عرب الضواحي مدعيا بأنه سرح من ذلك المصنع وان له خدمة قدرها كذا وانه كان يعمل اثنتي عشرة ساعة ز ولم يعط اجرة الاسبوع المقررة قانونا لدن تسريحه وطلب مني إقامة الدعوى بما يستحقه . واحتسبتها فكانت شيئا يقارب الثلاثين دينارا . ولمثله هو مهر زواج واكثر . اقمت الدعوى فكأني احدثت زلزالا وواجهت في المرافعة الأولى دفعة تتألف من ثلاثة من ابرع المحامين واغلاهم اجرا . كانت مظاهرة قانونية لا شك فيها استخدم لها كل حيلة قانونية متصورة لدفع الدعوى وتعاقبت التأجيلات والاعتذارات القانونية على الحضور في الاوقات المتخصصة للنظر في الدعوى . وكانت دلائل اثباتنا دفاتر الخصم وسجلاته . ما ان طالبنا بإبرازها حتى قامت القيامة ، وبدأ الخوف الاكبر من الكشف عن الطريقة التي يصادر الوجيه الكبير صاحب المصانع حقوق عماله . ومضت سنة كاملة وبضعة اشهر على المرافعات . ورتبت خلالها على عجل سجلات لا يبدو للعامل صاحبي فيها اي ذكر. وكان (اخر الدواء) وسيلتنا الوحيدة وهو توجيه اليمين لصاحب المعمل . وهو طلب لا تفيد في درئه وساطة ولا اعتذار . امر القاضي بأحضاره وبدأت سلسلة لا نهاية لها من المرافعات ثم الموانع عن الحضور مزودة بتقارير طبية . وعدما طلبنا ان تقصد المحكمة قصره الباذخ لتحليفه اليمين جيء بأستشهاد رسمي بأنه سافر للاستشفاء في مدينة تركية تقع على البوسفور ، ولا يعلم موعد عودته .
وطلب محاموه ارسال صيغة اليمين الى القنصلية العراقية في إسطنبول لادائه امام القنصل هناك . فتم ذلك. وورد الجواب بأنه حلف اليمين فعلا ، وهو ما استبعده .
هذه القضية المزدوجة ذات الطابع الاخلاقي كانت في سنواتي الأولى من مزاولة المهنة . ويخطر ببالي ان اعرض قضية اخرى ذات طابع سياسي وتتجلى فيها مصداقية قولة المحامي الفرنسي (روجيه مارتان ) التي اثبتناها في صدر حديثي . اذ كان لمطالبتي الادبية في حسمها القول الفصل .
قبضت شرطة الامن على طالب ثانوية كان تحت التعقيب زمنا لاشتباهها بنشاط شيوعي له ، وداهمت منزله فعثرت على اجزاء اربعة او خمسة مسلسلة لترجمة رواية “الحرب والسلام” الشهيرة للمفكر والروائي الكبير “ليون تولوستوي ” المتوفى في العام 1910 . بالنظر الى دوائر الامن كل مطبوع يمت الى كاتب روسي وهو مطبوع شيوعي والى جانب هذا كانت ثمة شهادات لرجال الامن .
احيلت القضية الى المحكمة الكبرى . وكان لدي ترجمة انكليزية لهذا الاثر الفني العظيم الذي لم تبق لغة حية الا وكان للقصة ترجمة لها فيها . وتذكرت ان مكتبة المعهد الثقافي البريطاني بالموصل تحوي ترجمة انكليزية اخرى لها . فسعيت الى مدير المعهد (روس توماس ) واستأذنته بأستعارة النسخة ولم يكن مسموحا بالاستعارة الخارجية على ما اذكر فتردد قليلا لكني قضيت على تردده عندما صارحته بأن القضية تتعلق بحرية انسان ولم ادخل في التفاصيل لكنه ادرك واستنتج ونزل عند طلبي .
جئت مسلحا بالكتاب وعليه شعار المعهد وختمه يزينه التاج البريطاني . وكانت مرافعة قصيرة وبكلمات موجزة لفظت المحكمة فورا حكمها بالبراءة من دون مداولة ولا اختلاء ولا سماع شهود .
والقضية الثالثة تتعلق كما حكمت الصدف بحقبة تاريخية لوجه من اوجه الكفاح الوطني الكردستاني . باثار نجمت عن الثورة التي قادها ملا مصطفى في العام 1945 وقد اخترتها وهي من صغائر القضايا – لا بسبب من هذا وانما لما يؤدي اليه التعاون الوثيق بين القاضي العادل الفقيه ، وبين المحامي الحريص على شرف المهنة من نتيجة طبية في سبيل الوصول الى الحقيقة . ربما كان ذلك في اواخر العام 1948 او فاحة العام التالي . جاءني احد حراس السجن بوريقة كتب مرسلها فيها انه من العشيرة البارزانية وقد اثقل بالاشغال الشاقة المؤبدة لا لسبب الا لان اسمه يطابق اسم محكوم اخر غيره في المجلس العرفي العسكري . ذلك ان عمره ايام قيام الثورة لك يكن يزيد عن اثنتي عشر عاما .
قمت بمواجهته في اليوم التالي . لم يكن يعرف العربية ولم اكن اعرف الكوردية . ولم يكن يعرفني غير ان اسمي كان مألوفا في هذا الوسط التي يعيشه بوصفي ذلك المحامي الذي يتولى الدفاع في قضايا مماثلة دون ان يسأل في اجر .
لم اكن بحاجة الى اكثر من نظرة واحدة اليه لاتأكد من صحة قوله . لا انسى قط مقابلتي الاولى له . بدا خائفا وجلا مذعورا كالقط الحبيس ، ممتلئا املا وثقة بالرجل الذي هبط علي من حيث لا يدري ليعيد اليه حريته السليبة.
واريد هنا ان احيد عن الحكاية قليلا لأخذك معي الى خلفيات لا بد منها وبغاية الاختصار .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012