لن يمر وقت طويل على خروجنا من كارثة حتى نجد أنفسنا وسط كارثة أخرى لا تقل فتكاً عن سابقاتها، هكذا تمضغنا هذه القسمة العاثرة من دون أدنى إحساس بضرورة فك طلاسم كل هذا النحس العضال المرافق لنا قبل “التغيير” وبعده. وعند التمعن جيداً بعلل هذا العجز والفشل في التعاطي المسؤول والشجاع مع ما يحصل لنا، نجدها تتركز في الكميات الهائلة من تبن المعرفة والمعلومات التي تضخه الشبكات الاخطبوطية للمنابر والمنصات الى تفصيلات حياتنا وما تبقى لدينا من وعي لما حصل لنا وما يحيط بنا من تحولات وتحديات ومخاطر. في العقود الأربعة الأخيرة وحدها (منذ بداية الثمانينيات من القرن المنصرم الى يومنا هذا) فقد العراقيون الملايين من أبنائهم بين قتيل وجريح ومشرد مع هدر أرقام خيالية من الثروات، كان بمقدورها إعادة بناء أوطان ومدن حديثة تليق بحاجات الإنسان وتحديات عصرنا، هدر وحرائق لم تتوقف بالرغم من مرور 15 عاماً على زوال النظام المباد. كل هذه المحن لم تتحول الى دروس وعبر بفعل الدور الذي ما زالت تمارسه هذه الشبكات من المنابر والمنصات المتخصصة بتصنيع كل أنواع التبن المعرفي والقيمي، والذي تتطلبه المستويات الضحلة من الوعي الذي أدمنت عليه قطاعات واسعة من سكان هذا الوطن المنكوب بانتصارات الدمار الشامل.
لأننا نرجع بأصولنا الى أسلاف لا يطيقون كل ما له صله بالتدوين، والذي نقلته لنا وصيتهم المشهورة: (استودع العلم قرطاساً فضيعه/ فبئس مستودع العلم القراطيس). لذلك لم نجد من يقتفي منا أثر كل هذا الكم الهائل من السموم والفضلات التي تضخها الينا هذه المنابر والمنصات بشتى أشكالها ووظائفها، ودورها فيما انحدرنا اليه من أحوال لا تحسدنا عليها قبائل الهوتو والتوتسي. وسط حقول ألغام لا حدود لها وكثبان هائلة من المسكوت عنه في ماضينا وحاضرنا، وسلسلة الهزائم الحضارية المتتالية والمرصعة بـ (تيجان الرأس والخطوط الحمر وما يتجحفل معها من ترسانات مانعات الصواعق) نعيد تزيين وتزويق هزائمنا الحضارية بأبهى حلة على طريق القادسيات وأم المعارك وغيرها من مآثر القوافل الغابرة. لا أحد معني بتقصي أثر كل هذا الطفح الهائل من الخطابات والمعلومات المزيفة والأكاذيب التي تضخ الى أهم خصيصة أهدتها الأقدار للانسان (العقل)، والى مسؤوليتها عما حصدناه من خيبات وضياع على شتى الجبهات.
كل هذه الأعداد من مراكز الدراسات والبحوث والجامعات الحكومية منها والأهلية، وغير ذلك من منظمات وجماعات المجتمع المدني وغير ذلك من نقابات وجمعيات مهنية وعلمية؛ لم تتجرأ يوماً في التقرب من حدود هذا الاخطبوط الذي لم يكتف بمنابره ومنصاته التقليدية، بعد أن اكتشف فتنة وحيوية المنابر والمنصات المحمولة على ظهر بساط الريح الإلكتروني. لقد تطرقنا مرارا الى دور النظام المباد في التمهيد لكل هذه الضحالة والغيبوبة في المشهد الراهن، بعد أن سحق كل ما له علاقة بالتنوع والتعددية الثقافية والسياسية، ومن جاء بعده وظف كل مواهبه في هذا الحطام البشري والمعرفي، وهذا ما تفصح عنه عمليات إعادة التدوير الجارية لكل هذا السكراب الذي تعرفنا عليه بعد انتشال نجم المنابر والمنصات السابق من جحره الأخير. لقد مضغنا ما يكفي من تبن ما قبل “التغيير” وكان الحصاد الذي تعرفونه جميعاً، ونحن على أبواب الجولة الجديدة من الانتخابات، هل ما زلنا بحاجة الى المزيد من تبن الديمقراطية المسلفن..؟
جمال جصاني
تبن المنابر والمنصات
التعليقات مغلقة