حسن السلمان
في رواية كش وطن لـ الروائي ( الإشكالي ) شهيد، ثمة خطابان، احدهما معلن ويمثل الثيمة المركزية للرواية والآخر بعضه مبثوث لا على التعيين أو متوارٍ بين السطور.. لكنهما ليسا منفصلين بقدر ما يحيل احدهما على الاخر ويشكل له عمقا استراتيجياً.
الخطاب الاول خطاب نقدي صادم لظاهرة العهر ممثلا بالدعارة الجسدية حيث يكشف شهيد على لسان بطله الذي قرر أن يعمل قوادا ً في مبغى ً، أن العهر المعروف بالبغاء ليس ممارسة لاأخلاقية نتاج ذاتها بقدر ماهي نتيجة لعوامل خارجية ممثلة بالعهر الخارجي ومستوياته المتعددة ، فلا توجد زانية ولدت وهي زانية، ولاوجود لقواد ولد وهو قواد، انما وجود الاشياء يتوقف على الظروف المحيطة بها حسب ما تقول به النظريات السلوكية التي تؤكد على أن الشخصية والطبائع اشياء مكتسبة وليست جوهرية، فـ : « الدعارة نتيجة مبنية على مسببات، سلوك ناتج عن سلوك آخر، كل دعارة متولدة عن دعارة اخرى ، العاهرات الموجودات في هذا المكان ماكن ليكتسبن هذه الصفة لولا وجود عهر خارجي قادهن للدخول في هذا التوصيف، عهر متوحش قتل البراءة التي غرسها الرب في كينونة المرأة ) ( 1 ) . حيث تتعدد مسببات البغاء ما بين المسببات الاجتماعية حيث الكبت والحرمان والاحتقار والنبذ والإهمال والقمع والاضطهاد ، والمسببات السياسية حيث الحروب المجانية التي تؤدي الى الفقدان والعجز والتشويه والشروخ النفسية العميقة والانحراف، وهو ما يعني إن المسببات لا تقل عهراً وانحرافاً لا أخلاقياً عن النتائج ويجعلنا أن نقول وبالفم الملآن : إن الدعارة او العهر بصورته المعتمدة هو الابن اللاشرعي للدعارة او العهر الاخر بوصفه سبباً خارجياً غير مباشر . والأمر كذلك، وحسب رؤية شهيد، لا ينبغي التوقف والانكفاء والهروب، بل اذا كان ولابد من الهرب، فسيكون هرباً الى الأمام، إذ إن تشخيص الحالة والاكتفاء بالوقوف على مسبباتها اجراء سلبي لا يختلف عن أي سلوك عاهر، حيث يكون الهرب الى الامام ممثلا بالمضي قدماً بـ (العهر) عبر الكشف عن الوجه الحقيقي للبغاء وحيثياته والإيغال في تصويره بأقصى ما للصدمة من قوة وعنف وبشاعة ورميه في وجوه اسياد المؤسسة الاخلاقية: عائلة ومجتمعاً وأنظمة سياسية ودينية وثقافية. فباب المبغى هو باب الحياة المفتوح لكل الطارقين: (الباب المفتوح المستعد لاستقبال اي احد، نعم هو كذلك لأنه لا يؤمن بثقافة الانغلاق والطرد .. من هذا الباب سيدخل الجميع، لا توجد محظورات ولا منع ولا اجتثاث.. هنا لا هوية ولا طبقية ولا ديانة ولا قومية ولا جنسية، الانتماء هنا للإنسانية فقط، الإنسانية المتوجهة الى السمو الروحي واللذة الفطرية .. هنا تتوحد الوجوه وتصبح لها هيئة واحدة من يأتي الى هذا المبغى يأتي متجرداً، يترك سيماءه في الخارج ويدخل) (19 ـ 20 ـ 31) . هنا نجد انفسا ازاء مشاعية او اممية (جنسية) تسقط دونها كل الحدود والفواصل، حيث يصبح الجنس / ( العهر ) مقابلاً للوجود ، والإيغال في التنظير له وممارسته اثبات للذات مادام ( الحياة سوء فهم متبادل ) تلك الذات التي لا تشعر بوجودها الا عبر تلقينات مازوخية يقتضي جلدها حتى النهاية كفعالية احتجاجية ضد الممارسات الاستلابية القهرية التي تتبناها المؤسسات الرسمية بغض النظر عن مسمياتها . هذا على طرف الممارسة، اما على طرف الرؤية والاتجاه الفكري، وهو الخطاب الاخر الذي يكوّن ثيمة الرواية ويعزز من قوة حضور بعدها الفكري، فيتصدر العدم واجهة هذه الكائنات المعذبة المنبوذة : « انا الذي تآكل كل شي بداخله. كل الاشياء فقدت قيمتها، ودلالاتها، البيوت، الشوارع، الوجوه، المقاهي، الدين، الحياة، الشرف، الموت، هذه الاشياء بتّ اركّبها مع بعض فيكون الناتج شيئاً هلامياً يشبهني لدرجة التطابق، إنه العدم « (44) . ولإدامة زخم الهرب إلى الامام، كما جرى توصيفه، تعتبر كل الامكنة زائفة الا المبغى فهو المكان الوحيد الذي يتصف بالصدق والحقيقة: « المبغى وحده كان صادقاً في حقيقته ولا يواري عورته او اسمه، كل شيء يكذب يا سيادة القاضي، كل شيء يكذب إلا المبغى، هل تعرف لماذا هو لا يكذب، لأن العراة وحدهم من يعيش فيه، إنه المكان الوحيد الذي لا يماري الزيف والخديعة، هو الحقيقة العارية في هذا الوجود « (150) . فالعراة هنا تعبير مجازي عن النفوس المتخففة عن المقاصد والأغراض والمصالح الاستحواذية الدنيئة .. (عراة) لا ينشدون سوى طلب اللذة من دون شروط والتزامات .. لذةٌ ذات وجود آني خارج حسابات الزمن واشتراطاته. فالحقيقة العارية هي غير الحقيقة المقنعة بالتأكيد، حقيقة الزيف والخداع والانتهازية. إنها حقيقة لا لبس فيها .. حقيقة واضحة ولا غبار عليها.
مما تقدم، يتضح جلياً أن شهيد أراد لـ كش وطن أن تكون ( صفعة في وجه الذوق العام ) هذا الذوق المحكوم بمختلف الانساق الثقافية والاجتماعية التي تجعل منه ذوقا ً دوغمائياً لا يرى سوى حقيقته المطلقة المتعالية ولا يتبنى سوى خطابه الطارد والمعادي لكلك خطاب يختلف معه .
فنياً، اعتمد شهيد على السرد المحض بوصفه عرضاً للأحداث والمونولوجات حيث تكاد الرواية تخلو من المشاهد المرسومة والوصف الوافي للشخصيات والتأثيث المكاني والتصعيد الدرامي على مستوى الحدث وتجاذباته، مكتفيا بجملته الرشيقة، المتمكنة، المتوازنة من حيث التركيب اللغوي فهي لغة وسطى بعيدة عن النبرة الادبية العالية وفي الوقت نفسه بعيدة عن اللغة السطحية المباشرة.
ولأن روايته رواية افكار لا دراما، فإنها جاءت ذات صوت أحادي هو صوت المؤلف الذي لا يعلو عليه أي صوت، موزعاً على كل مشارك في سرد احداث الرواية بصورة غير مباشرة، إذ أن جميع الشخصيات تقف على مسافة واحدة من حيث مستوى الوعي وتلفظاته.