منور ملا حسون
القراءة الكاشفة داخل متون(صهيل امرأة شقراء) وهي مجموعة قصص قصيرة للقاص (ريسان جاسم)، تكشف أن القاص يسعى إلى البحث عن روح الحداثة و المعاصرة، ليبثها في دواخل تلك المتون مقرونا بهيجانه وفورانه الداخلي اللامتناهي مستعملاً أدواته القصصية بوعي و بصدق .
وقد أشار الناقد (جميل الشبيبي) في قراءة نقدية له في مجموعة (امتدادات ضاحكة في أفق يبكي) «هذه القصص تتسم ببنية خاصة حيث تنحسر الحكاية أو تنتهي وسط تراكمات لغوية متصلة بعضها ببعض ، وفي جو مشاكس مشحون بالكوابيس والأجواء المغلقة «، لكن .. تفتحت عوالم بعض قصصية في مجموعته (صهيل امرأة شقراء) في أجواء تتسم بإيقاع اليقظة والحلم، وهما يختلطان في جسد قصصه كما في قصته (سطح محدب لامع) « من أضغاث أحلامي أن أحيط بفاصل يبعد دكنة الليل عن سواد قمتها اللامع .. تركلني الموجة .. « والوعي باللاوعي « والبقعة هي البقعة .. او هذا ما تبدو عليه من الخارج.. تلك ظواهر ما غيرتها الاهتزازات ..ولا تسعفني قناعتي بقبول كونها بهذا الشكل السلبي من الداخل « و « من الذي يزعق مرتداً بهذا العنف ؟ أهي أعماقي « والزمان بالمكان «يتمحور الليل عند رمح الأفق.. «
و إذ يفاجَأُ القارئ بعالم يحتضن القهر» – ضعوا الكيس في عنقه واصعدوه الشاحنة) (2) والموت» – قالوا أنهم سيعودون لتمزيق لحمك ـ هكذا قالوا والله سيمزقون لحمك « (3) «ـ وجدناه مقطعاً بالسكاكين « والعفن « على الرصيف المقابل للمقهى ,تجمعات قمامة تتكاثر باطراد …» (4)
حتى يبدو أن القيم الإنسانية قد فارقت الحياة وانسلخت منها آدمية الإنسان.إذ يضع القارئ في تصورات بأن هناك من يريد أن يغتال الق الحياة.
لكنه ولعشقه لحياة كريمة ، يكشف أبطالُ قصصه في أثناء التحاور إيديولوجيته التي تقوم على الاستقامة و نبذ الخطأ ورفض القمع « نحن موكلون بإيصال الأرواح التي تنحرف عن الصراط الى مسارها» و « ومادامت أرضنا موطوءة بأقدام لا نريد لها أن تستقر فوقها فستكون أذرعنا ملاقط لانتشال أمثالك ممن يمهدون الأرض لاستقرار الأقدام أل ..» (5)
و ان نظرة متأنية الى عناوين المجموعة القصصية تقودنا الى ميزة مهمة ركز عليها القاص وهو الصراع الداخلي المحتدم الذي يهيمن على فكره والذي يحمل صرخة صامتة لإبراز الحقيقة و جوهر المواقف من رؤى و تصورات متداخلة :
(إيماءات مرتبكة- سطح محدب لامع – بلازما النوم المتأرجح ـ نسيج يتشظى ـ صهيل امرأة شقراء ـ تحت الأرض ، فوق الأرض .. حسابات جارية ) .
ولأن الحراك في القصص يتضمن ( الفكرة الأساسية للقصة وللشخصية وللصراع) فان قصص القاص (ريسان جاسم) تكتنز بأوجاع وهواجس وتراكمات الزمن القاسي، تقود بشخصياتها إلى تداعيات الغوص في الأعماق الخفية في صراع بيّن:
«في ساحة تدخل تاريخ بلادي بالأرقام .. تتعثر خطاي بحجارة و شظايا تملأ مسار الناس في الشوارع.. ما داموا يعمرون فلا بد من التخريب .. ولأننا لم نعتد أن يكون تخريبنا منظماً لا يعرقل استمرار الحياة ،فسيكون التعمير متعجلا لن يطول به البقاء» (6)
وحين يكون القاص متمكناً من أداته ، يستنطق كلماته ويطاوعه نسيج اللغة إلى حد الارتقاء بتمكن لغوي دائم الحضور.. و لإحساسه بالإنسان وبمصيره ،جعله يصب عبارات تحمل معاني البؤس وعدم الرضا وكأنه يسعى إلى اكتشاف الذات التي تكمن فيها هذيان خفي عبر معان غامضة متناقضة .. :» تتكثف إحساسي بأنني سأرى عمتي في موقع يبعد كثيراً عن مكونات دواخل رأس أبي « .(5) طائر مائي وديع
فهو الباحث الدائب عن الحقيقة ،في زمن أودى بأحلام شعبه وأنهك أركان مجتمعه ..
ويبث قلقه على جسد القصة ويغمس حيرته في جذوة الكلمات ليمنح قصصه لوحات مثخنة بالجراح والألم :
(هو.. يستطيع أن يجد تبريراً لخطاه المتعثرة : وهنٌ – تعب- إرهاق – لكن تبعثر أفكاره ..تداخل عملياته العقلية بهذا الشكل العنيف ,المضطرب ..غرقه في (هلوسات) توشك أن تعبر شفتيه كلمات لارابط بينها سوى مفردات العنف التي تخترق تواجده أينما حل «.(6)
و حاول في القصة نفسها توسيع دائرة النص ليبث فيه ما هو حيوي عبر الإشارات إلى (الأمكنة) على وفق إيديولوجية خاصة:
«ذبابات داخل الرأس… داخل البيت.. يملان الشوارع..يلقين بيوضهن فوق ورق يهمك أن يظل محتفظا ببياضه». (7)
و تتجلى حساسية السارد تجاه المحبطات ، ليسحبنا إلى أمكنة قد تفقد هويتها وأجواء أكثر غرابة وإثارة ، لإيلاجها في متون القصة:
«أنت هنا الآن من جديد… افتقدتك الجُدر الصم منذ أن ابتعدت بك الأشرعة عن مراسي أوبئة الرؤوس , ومضاجع التناسل العقيم ..آوتك مكعبات تضاءلت منافذها الى حد يكفي فقط لتغيير الهواء «. (8)
يقول كونديرا (أن الأدب و إن لم يكن له امتياز يؤمن له بلوغ الحقيقة ,فهو لا يتوقف أبداً عن البحث عنها).(9)
من جانب آخر يستثمر القاص اللهجة العامية و يوظفها ببراعة في الحوار «- اسمع ولك…تريد اكل ينطوك ..تريد ماي ينطوك ..تريد..بس لا ترفع صوتك ,و إلا اااا …)
(اشلونكم ,. وشلون شلونكم.. وشل ..» (10)
و في الوقت نفسه يحاول إنعاش الذاكرة ببث الموروث الشعبي في السرد، وذلك بتذييل الحوار بمقطع من أغنية شعبية مشهورة لمنحه الرقة و العذوبة و التخاطر :
«خدك كمر لو مصباح يضوي ضي يبا يضوي ضي..»(11)
بهذا يحاول إدامة الحبل السري بين فكرة القصة و عبثية الحياة والإنسانية المنهكة و شحذ ذاكرة القارئ في سياق نصي .غير انه وضمن آلية سردية أخرى داخل قصة (إيقاع راقص على صدر الزمن المتمارض) يحاول أن يستنطق ذاكرة أبطالها .. إلا انه يدور في دائرة مغلقة :
«كانت ترفض النوم، غير أن حلماً راودها مرة.. جعلها تهرع اليه «
و سرعان ما يلقي بالضوء الأخضر في متن القصة ليمنحها الدفء ، وللملتقى الفضاء الأرحب :
« أدرك الطبيب الذي يعالجها ما تريد، فراح يعمل جاهداً ليفتح أمامها أبواب فردوسها غير المتكامل ..»
و كأنه يريد أن يشاكس بطلة قصته فيعيدها إلى هواجسها لتستسلم للهزيمة مرة أخرى :
« وحين تتصاعد في داخلها سحب اليأس، تتساءل بألم :أمعقول هذا؟ هذا التكوين الرائع.هذه الهندسة المعقدة.!لأن إنسانا قرر برغم صدقه وموضوعيته ـ ينتهي كل هذا؟ «
و لانهيار التعاضد الحياتي نلاحظ ضغطاً مؤكداً على ثيمة معينة وتكثيفاً للأصوات السردية .. إنها نتيجة لتراكمات من التداعيات و قساوة الزمن المر.
و إن كان القهر اليومي هو القاسم المشترك في قصص مجموعة (صهيل امرأة شقراء) والإنسانية المهددة بالضياع ، من خلال القلق الدائم ،إلا أن أبطال قصصه تأبى الإذعان للهزيمة..و تسعى الى الانزياح للبحث عن البدائل .وبرغم انه منح نهايات محبطة لبعض قصصه إلا انه منح البعض الآخر، ابتسامات لا ترتضي الذبول « تفترش وجهه ابتسامة مرحة،ظل يحملها وهو يبتعد ملوحا بيديه» (12) ، وروحا آمنة مطمئنة « ـ وآمنة مطمئنة ستبقى روحك معي «(13).. وكلمات تتسامى باسم الله «انتفض صارخاً في فراشه،ليجد أمه قربه تبسمل وتحوقل، وهي تمسح جبهته وتقرأ آيات يبعدن عنه كابوساً يخنقه « (14).
و القارئ بإمعان ، يدرك أن جسد معظم قصص المجموعة يزخر بالتضاد ..و الصراع بين الخير والشر..وبرغم عبثية العالم الذي يحيط بأبطالها إلا أنها لا تفقد صلابتها .. حتى كأنها تتنبأ ببزوغ فجر جديد ، ينثر خيوط أمل تنساب من أفق لبس الضباب القائم …
المصادر
(1) إنعكاسات / آراء نقدية حول المنجز الأدبي للقاص ريسان جاسم / 2011
(2) صهيل امرأة شقراء/ قصة اصطياد ص 38
(3) م ن / قصة إيماءات مرتبكة ص16 (9) نقد النقد /دار الشؤون الثقافية بغداد1986
(4) من ن / قصة شركاء ص 42 (10) م ن / قصة البديل ص 32
(5) م ن / قصة اصطياد ص 42 (11) م ن / قصة سأنكأ جرحا ص26
(6) م ن / قصة شركاء ص 39 (12) م ن / قصة اختلال الجينات الوراثية ص30
(7) م ن / قصة شركاء ص 39 (13) م ن م قصة فاطمة ص47
(8) م ن / م ن / قصة بلازما النوم المتأرجح ص22 (14) م ن / قصة لفيفة ص49