سوق هرج

حقق شارع المتنبي في الشهور الأخيرة انتصارات ساحقة، أثبت خلالها أنه باق ويتمدد! وبدأ يضيق الخناق على الأسواق الملاصقة له، ويزاحمها في عقر دارها، وعلى رأسها سوق هرج العتيدة، الموغلة في القدم، والضاربة في عمق التاريخ!
إن ذوبان «خط التماس» بين سوق «الكتاب»، وسوق «الخردة»، له بحسب المنطق الأرسطي، معنيان. فأما أن تكون السوق الأولى قد بدأت بالانتعاش، أو أن الثانية شرعت بالانحسار. وللاثنين إذا ما تحققا، مردودات إيجابية تضعهما في سياق التطور الاجتماعي البطئ في البلاد!
وكنت أود لو أن مثل هذا الاحتمال قد وقع بالفعل. فازدياد الطلب على الكتاب، يعني ميل الجيل الجديد للانتفاع بهذه الثروة الباذخة، التي تحمل في طياتها الحافز الأقوى على صنع التغيير، مثلما أن تضاؤل سوق «الهرج» يشير إلى تنامي القدرة الشرائية للناس، وعزوفهم عن اقتناء المواد المستعملة، بل ورغبتهم في الحصول على كل ما هو جديد، وعصري، وجميل!
ولكن الحقيقة أن كلا الأمرين لم يحدثا على وجه القطع، فلا سوق الكتاب انتعشت، ولا سوق الهرج انحسرت، بل إن العكس ربما يبدو الأدنى للصواب.
فأكداس الكتب التي تناثرت على جهتي شارع الرشيد هي أقرب إلى سوق الهرج من سوق الكتاب، لأن ما فيها من كتب يباع بأسعار «تنافسية» لا تتناسب مع ما أنفق على طباعتها من جهد ومال، ومعنى ذلك أن الطلب عليها قليل، على وفق نظرية اقتصاد السوق الشهيرة.
أما في شارع المتنبي ليس بعيداً عن «خطوط التماس» هذه، فإن أسعار الكتب تجنح نحو الكمال. إذ أن القيمة العلمية للكتاب فيه تتناسب طردياً – مع بعض الاستثناءات – مع قيمته المادية.
والأمر مختلف جداً بالنسبة لسوق الهرج، فلا شئ يدل على أنها أصيبت بالهزال، بل على العكس من ذلك، باتت تغص بالزبائن، وتمتلك عناصر القوة التي ميزتها عبر عشرات، أو مئات السنين. ولا شك أن انتعاش سوق «الخردة» دليل على تردي الوضع المعاشي للأفراد، إلى درجة لا تبشر بالخير أبداً.
وعلى أية حال فإن الاتجار بالسلع المستهلكة لا يخلو من نفع، فهو يعني فيما يعنيه تقليل الاستهلاك وخفض معدلات الاستيراد، وهما أمران جديران بالاعتبار حقاً، مثلما أن ظاهرة بيع الكتب بأسعار زهيدة، تشجع الراغبين بالقراءة، وترفع من رصيد المكتبات المنزلية.
إن ذوبان خط التماس في شارع الرشيد، ظاهرة تستحق التأمل، فبالرغم مما فيها من إيجابيات، إلا أنها تؤشر إلى تراجع اقتصادي ملحوظ، وتنذر بازدياد معدلات الفقر مرة أخرى، وكذلك فإن العودة لاقتناء السلع القديمة يعني تعاظم سلطة الماضي، في وقت يتجه العالم فيه بخطوات حثيثة نحو المستقبل.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة