عادل عبد المهدي
وزير النفط السابق
حقق اكراد العراق نجاحات كبيرة، وتعرضوا لانتكاسات خطيرة. وتكرر مشهد بلوغهم اعلى القمم، ليتحول سريعاً لاكبر الانتكاسات. فهناك مأزق في البناءات الفكرية، يتطلب مراجعة شاملة، وإلا فان اي نجاح يتحقق سينهار بسرعة. ومن دون مراجعة الذات، فان المراجعة مع الاخر، ستبدو معقدة، وتتعرض لانتكاسات متكررة.
لاشك ان احد المآزِق في الدولة المستقلة وحق تقرير المصير هو افتقاد المنفذ للعالم الخارجي.. وغياب الجوار الراعي والقابل بالانفصال.. او دولة عظمى راعية، قادرة على فرض ارادتها، بالضد من خرائط سبق وأن رسمتها. لكن المأزق الاهم والاخطر هو فهم حق تقرير المصير وكأنه اساس السياسة المطلوبة لاختراق هذه النواقص، مما يقود للاستنجاد باستراتيجيات وسياسات وتحالفات وقوى مرتبكة. فتحصل الحروب بتضحياتها وخسائرها، حتى يرهق او يخذل، فيفاوض وعينه باقية على اختراق تلك النواقص، لينتظر هذا الطرف او ذاك، اول فرصة لتتجدد الازمات والاقتتال.
لا انكار للحق القومي، وتقرير المصير.. لكن هذا الحق ان مُوضِع خطأ من حيث التاريخ والجغرافيا والمصالح وفن الممكنات والثوابت والمشتركات المتجذرة العميقة مع بقية الشعوب، فانه سيتحول الى فكر وتعبئة وألية تقود، كل عقد او عقدين، الى الدورة المتعاقبة للنجاح والفشل، والحرب والتفاوض. فلا انكار ان الانظمة السابقة قد اعتدت على الكرد وظلمتهم، فكانت مقاومتهم عملاً بطولياً وطبيعياً.. لكن ما يجب مراجعته هو طغيان الرؤية الاحادية وعدم ربطها بالطرف الاخر للمعادلة لتستكمل البناءات الصانعة للنجاحات والانجازات المستدامة. فالمنفذ للخارج والدولة الراعية اقليمياً او دولياً موجودة وقائمة، وتتمثل بعلاقة الكرد ببقية الشعوب الذي يعيشون معها. لذلك كلما ارتبطت قضية الكرد بقضية العراقيين، وارتبطت قضية العراقيين بالكرد وغيرهم، كلما تتحقق المكاسب، وينجح الجميع في الدفاع عن حقوقهم العامة والخاصة. فحقق الكرد انتصارات عظيمة.. عندما رفعوا شعار «الديمقراطية للعراق، والحكم الذاتي لكردستان».. فوقف معهم الشعب كله وعلى راسهم المرجعية، محرمة مقاتلتهم. وهُزم معسكر الحرب والانفال وحلبجة والتهجير والقتل والتبعيث والتعريب.. وعندما انسحبت الحكومة من كردستان في 1991، ووحدوا صفوفهم مع المعارضة لاسقاط النظام العنصري الطائفي الدكتاتوري، وصوتوا للدستور، الذي اسهموا بكتابته، فحققوا من المكاسب الشيء العظيم، برغم كل السياسات الخاطئة هنا وهناك، وبرغم كل ما قيل ويقال.
لكن عندما يرتكب طرف الاخطاء الفادحة، ويصبح تطرفه مغذياً لتطرف الاخر، وتتجرد الفكرة القومية وحق تقرير المصير من وحدة المصير والعلاقة العضوية بالجار وبقية تلاوين ومكونات الشعب، فستخترق المفاهيم التصادمية الحق والمكسب القومي، فلا يمران الا على حساب حقوق ومكاسب الاخرين. هنا سنصبح اسرى قانون موازين القوى والامر الواقع، التي ستتغير مرة بعد مرة اخرى، بسبب اختلال المعادلة، وعدم الاستناد للبناءات الدستورية والتعاقدات العادلة السليمة، لندفع الخسائر والاثمان باستمرار. فلا خيانة ومؤامرات، بل مباني خاطئة تُهمَل وهي صغيرة، فتنمو لتتفجر لاحقاً، بسبب احادية الرؤية والتعصب، وعدم ربطها بالجانب الاخر الضروري لتوازن وعدالة المواقف.
العلاقات بين شعوبنا ليست علاقة المستعمَر بالمستعمِر.. فكلنا شعوب مظلومة ومقهورة.. والدولة ليست التعبير الوحيد عن القومية.. والقومية، اية قومية، لا تعبر عن نفسها بالعنصر فقط، فهذه كلها امور تحتاج الى مراجعة، ليس بالنسبة للكرد فقط، بل لجميع شعوب المنطقة.. فما دام بعضنا من العرب وغيرهم يرى ان القومية بالنسبة له هي الدولة، فان الاخرين من الكرد وغيرهم سيرون ان الدولة هي تعبيرهم الوحيد ايضاً. امم وشعوب وقوميات طورت عقودها الاجتماعية ووسعت ولاءاتها وفضاءاتها لاحتواء القوميات والهويات المختلفة، متجاوزين المركبات الفكرية للقرنين الماضيين. اما نحن فما زالت هذه المركبات هي حجر الزاوية في بناءاتنا المعلنة والمضمرة، برغم كل الاضرار والمعارك والخرائط الوهمية التي نرسمها في اذهاننا، والتي تتصادم بخرائط غيرنا في استنزاف مستمر.. فالمراجعة مطلوبة من الجميع، وسيتعذر نجاح المباني لجهة وغيابها عند الاخرى.
ان الموضوع معقد ولن يتلمسه كثيرون الان، حيث الحساسيات والعواطف على اشدها، لكنه موضوع ستتوضح مساراته، لانه الطريق الوحيد ليس لخلاص الكرد فقط، بل لخلاصنا جميعاً ايضاً.
كركوك، القضية الكردية.. مراجعة الذات طريق المراجعة مع الغير
التعليقات مغلقة