علي حسن الفواز
صناعةُ القص رهانٌ على المغايرة، وعلى وعي الكتابة بوصفها قصّاً آخر للتاريخ، أو أنَّ هذا التاريخ ووقائعه وأحداثه وحتى وثائقه ستكون خاضعة لسلطةٍ سرديةٍ متعالية تتسعُ فيها دائرة التخيّل، وفاعلية القص، والأكثر خطورة فيها هو تمثّلها ل(ارادة القاص) بوصفها مقابلا ل(ارادة العالم أو التاريخ أو الوثيقة)
يأخذنا الروائي نزار عبد الستار الى مجاله السردي ليكشف عن طاقة هذا القصّ السردي من جانب، وعن ارادته في التعاطي مع كتابته من جانب آخر، إذ تتفاعل هذه المكونات لتقترح لنا مستويات متعددة لها علاقة بتقانة الكتابة، وبترسيم حدود المجال السردي ذاته، فهو يكتب نصاً واقعياً، لكنه مسكونٌ بحساسية من يعرف التفاصيل النسقية لهذا الواقع تماما، ويدرك حمولاته وشفراته واسراره وحتى طلاسمه، ولعل طبيعة الشخصيات التي يصطنع لها وجودا في هذا الواقع، ويمنحها طاقة التعبير عن ارادتها، وعن حساسيتها إزاء العالم تؤكد جديته في النظر الى فاعلية القص، والى وظيفة الشخصية بوصفها بؤرة مركزية في أيِّ عمل، وأنّ عمل أيِّ سرد لا قيمة لها خارج وظائفية تلك الشخصية، على مستوى التعبير والتصوير والاحساس والموقف، أو على مستوى الرؤية وتمثّل ارادة العالم..
في رواية (الأميريكان في بيتي) تكتسب شخصية الصحفي جلال بُعدها السردي من خلال عُمقها الواقعي، وقدرتها على مواجهة الأحداث، فهي ليست شخصية هامش بقدر ماهي شخصية تُعبّر عن لحظة وجود صادمة، حيث الاحتلال الأميريكي، وحيث محنة البطل الشخصية، وتشوش علاقته بالآخرين، والتي تجعلها تحت رقابة صارمة. قلق هذه الشخصية وصراعها الداخلي قد يكون أنموذجا للشخصية العراقية التي عاشت أزمة الواقع بعد أحداث 2003..
هذه الشخصية لاتشبه شخصيات(صمت البحر) للروائي فير كور، والتي تعيش المحنة ذاتها، حيث المقاومة بالصمت، لكنّ شخصية الصحفي صلاح تبدو أكثر صخباً في التعبير عن وجودها من خلال تواصل عمله مع المُنظَّمة التي يدعمها الآباء الدومنيكان في مدينة الموصل، ونشاطه الدؤوب في اعماله المناهضة للعنف، وكأنها تجدّ في هذا العمل محاولة في المواجهة، وفي التماهي مع غريزة التطهير والخلاص، ورفض الخضوع لعقدة الخوف الوهم الأميريكي..
البطل الأنثربولوجي
الاهتمام بالشخصيات السردية يعكس وعي الروائي بأهميتها الوجودية، وبوظيفتها الأنثربولوجية في التعبير عن هويتها في المكان، وفي حفر ما هو مُضمر في التاريخ، والمُقدّس وفي المخيال الشعبي، فرواية(يوليانا) هي رواية شخصيات، لها سمات ومقومات تحفل بالانفعال العاطفي، وبالقوة العميقة، فعبر طاقة الحبِ التي يملكها الأب ججو، والإبن حنّا، والتي تملكها شخصية ياسيمن العاهرة، يتحول الايمان الى موقف طهراني من العالم، والى لذة للخلاص، وأنّ ظهور شخصية القديسة يولينا ليست إلّا المُحرك الوظيفي الخارجي لتحفيز ماهو عميق في الشخصيات الواقعية، حيث نجد العوق الجسدي الوراثي للأب والإبن والعوق الأخلاقي ل(ياسمين) يحمل معه شفرة التعالي، حيث تفكيك المُقدّس ورمزيته الجمالية الشعبوية من جانب، ولتفعيل سردنة فضاء تلك الشخصيات من جانب آخر، وبإتجاه صناعة النسق السردي للشخصية المُفارِقة، التي تعيش وسط اجتماعي وسياسي وثقافي مضطرب، ووسْط نقائض العوق والخطيئة والمُقدّس والسحر..
الشخصية السردية في روايات نزار عبد الستار لها وظائف مُركبة، فبقدر ماتحمله من علامات وجودية، فأنّ لها وظائف اجتماعية وسياسية ونفسية وحتى تاريخية، وهذا مايجعل أثر الشخصية في الرواية رهانا على جدّة الروائي في التعاطي مع وظائف شخصياته، عبر رصد مشاعرهم وعلاقاتهم الحميمة، وعبر رصد مواقفهم وتتبع يومياتهم، إذ إنّ اصطدام الشخصية بالواقع/ الإحتلال/ القمع/ الارهاب/ الاحباط/ الفشل يجعلها أكثر تمثّلا للبُعد الوظائفي الحركي في أية حكاية، تلك التي تحدث عنها فلاديمير بروب، في سياق حديثه عن البنية الإطارية للقص، ولحركة الشخصية في مجال هذا القص، أو حتى في تمثّل البعد النفسي لها، وحدود تدخّل الروائي عبر منظور الصيغة، أو عبر التبئير الذي يحوز زواياه، لكنّ يبقى لشخصيات نزار عبد الستار هواجس وتعالقات تعيشها في سياق تعبيرها عن وجودها، أو عن وعيها القلق، أو حتى عن تشوهاتها وضياعها وهي تعيش اغترابات واضطهادات جنسية وتعبيرية ودينية، لذا نجد في هذه الشخصيات خصوصية مايمكن تسميته ب(الشخصية النامية) تلك التي تتعدد وظائفها، وتتضخم نظرتها للعالم، وربما تصطنع لها مواقف مغايرة منه، كما في شخصية الصحفي صلاح، أوفي شخصية الإبن حنّا وشخصية العاهرة ياسمين…