كثيرة هي الممارسات والسلوكيات والأفعال التي تثير الاشمئزاز والامتعاض لدى الأحرار من البشر، إلا أن أكثرها قبحاً؛ يتجلى في هذا الإصرار العجيب للمخلوقات التي لا تطيق سماع مفردة (الحرية) على تقمص دور الأحرار والثوار وغير ذلك من العناوين المتنافرة وما تختزنه أرواحهم وعقولهم الخانعة من خصال. عندما نراقب كل هذا الكم من الإسهالات، التي تجتر آخر ما انضم لقاموس الحرية والتعددية والحداثة من مفردات واصطلاحات ومفاهيم، من دون أن يرف لهم جفن من خجل وحياء، وهم في غالبيتهم العظمى من حيث السيرة الذاتية والمحطات الذليلة التي مروا بها، قد ألحقوا أبلغ الضرر بهذه المنظومة المتوهجة من القيم؛ نكتشف جانباً من علل كل هذه الغرائبية في المشهد الراهن. من الصعب العثور على مفردة يمكن أن تقارن مع ما حظيت به (الحرية) من اهتمام وبحث وتقصي ودراسة وحفريات في تاريخ البشر، لذلك هي اليوم تمثل منظومة متكاملة ومتراصة ومنسجمة من الوعي والممارسة والسلوك، بعد التحولات النوعية الهائلة التي شهدتها المجتمعات البشرية والمدعومة بحزمة التشريعات والمدونات الحضارية الراقية، والتي مثلت وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوابته الأساس. لقد تهاوت بفعل ذلك (التحولات العميقة والسريعة) الكثير من النظريات والعقائد والديباجات واليافطات، التي مثلت ذات عصر الملاذات الأشهر في التعبير عن الحرية وأتباعها. لقد تحولت العديد من تلك التجارب الى مأساة حقيقية، بعد إغفالها لناموس الحياة الذي التقطه غوته في عبارته الخالدة: (النظرية رمادية اللون يا صديقي، لكن شجرة الحياة خضراء على الدوام).
في وطن التجارب التاريخية والدقلات الغرائبية (العراق) يمكننا التعرف على ما أشرنا اليه، من خلال تتبع المآل الذي انحدرت اليه، العديد من التنظيمات والحركات والأحزاب والشخصيات، بعد انفصالها عن منهل القوة والازدهار؛ أي الحركة والديناميكية وما يرافقهما من حيوية وتعددية وتناغم وثراء، لقد تحولت الى مستنقعات آسنة بفعل الركود الطويل، والذي شرع الأبواب الى ما هي عليه اليوم، من شراهة وضيق أفق ولا مسؤولية في التعاطي مع هموم وتحديات مجتمعاتها وعصرها المتغيرة أبداً. هذه الكتل السياسية والاجتماعية لم تشهد أي تحولات نوعية في حياتها الداخلية، حيث الزعامة فيها تتوارث أو تنتقل الى من يحرص على عدم الاقتراب من ملفاتها وغسيلها القذر، رغم أنف الأهوال والكوارث التي حلت على سكانه من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء. من سخرية القدر أن يصبح المنتسبين لهذه الكتل؛ هم الأكثر صخباً وضجيجاً في الهتاف للحرية وملحقاتها من شعارات جميلة، في الوقت الذي يكون فيه شرطها الأول (الحرية) هو التحرر من لجام هذه الاصطبلات الحزبية والسياسية، كي لا ينتهي بك المطاف الى التفسخ مع حشود ما يمكن أن نطلق عليهم بـ (أحرار نص ردن) يعني القافلة التي ضيعت المشيتين. الأحرار يشتركون جميعاً بامتلاكهم لخصوصية العقل النقدي، والشجاعة على اتخاذ القرار عند مفترق الطرق، وهذا ما يصعب العثور عليه لدى المسكونين بترنيمة دريد بن الصمة التي كانت مناسبة لشرعة سكان الصحارى قبل أكثر من 1500 عام:
(وما أنا إلا من غزية إن غوت/ غويت وإن ترشد غزية أرشد). إنهم “أحرار” ضمن الشرنقة التي تتيحها لهم دوائر ومستنقعات التعصب التي اختاروها بمشيئة عقلهم الجمعي..!
جمال جصاني
أحرار نص ردن
التعليقات مغلقة