« ليس بمقدور الانسان ان يغطي جميع الاحداث والوقائع في حياته ، عندما يروم ان يسجل نوعا من الذكريات او بعضها ولذلك يكتب احيانا هذه الذكريات موجزة او محددة بمعنى انها لاتفي بهدف الاكتمال كما يرى البعض» .. بهذه لكلمات المعبرة الواضحة كتب المرحوم الدكتور مهدي الحافظ الذي غادرنا امس إلى المليك الأعلى مقدمة آخر كتاب أصدره وحمل عنوان (محطات في حياتي) .. وكأنه يلتمس العذر من الاخرين الذين يطالبونه ويعتبون عليه في عدم توثيق كل مايحمله من تاريخ حافل بالأحداث الكبيرة والتي تركت اثرا كبيرا على المستويين الوطني والدولي ..كان يريد ان يقول اعذروني ان لم اتمكن من كتابة كل ما تحت جنباتي فهو كثير وساعات الحياة لن تكفي للبوح به ..
مهدي الحافظ لايعرف الاستسلام او الوهن .. يحمل من التحدي للواقع الشيء الكثير ، فهو ابن الشامية مدينة العنبر فتح عينيه بين تلك الحقول المترامية في تموز عام 1937 ليحمل معه تلك الطيبة التي تشبه رائحة العنبر ، ومع الطيبة حمل ايضا قوة الشكيمة , ومنها انطلق إلى العوالم الاخرى حاملا معه هموم وآلام ابناء الشامية ليحلق عاليا في سماء النضال والجهاد الحقيقي فامضى حياته مناضلا تشهد له الساحات والمعتركات.
لست بصدد الخوض في سيرة حياة الدكتور مهدي الحافظ الذي ترجل من على صهوة جواد الفكر والبناء مستعجلا الرحيل وما زال لديه الكثير من العطاء ،.. ولكن اردت ان اكتب شيئا عن السنوات التي قضيتها قريبا من الدكتور مهدي الحافظ وما تعلمته منه من دروس مهمة في الحياة .. فقد التقيت بالمرحوم الحافظ لأول مرة في نهاية عام 2004 عندما تسنم مهامه وزيرا للتخطيط ، وكنت لاول مرة التقي بوزير من وزراء العهد الجديد .. وفي اول لقاء منفرد جمعني به ، طلب مني ان انجز عملا ما ، ولم اكن مقتنعا به لعدم امكانية تنفيذه ، فاظهرت عدم قناعي بحركة جسدية رافقت امتثالي للأمر ، فقرأ هو ذلك ، موجها سؤاله لي : لماذا انت غير مقتنع بالأمر ؟ ، قلت له وانا افكر بحقبة ماقبل عام 2003 ، بل انا مقتنع وسأنفذ الامر ، قال انت غير مقتنع ، ولابد ان تخبرني عن اسباب عدم قناعتك .. امتثلت مرة اخرى وأخبرته بالأسباب .. اقتنع بما اخبرته ، من دون ان يترك معرفة عدم توضيح الأسباب قلت له : انت وزير فكيف لي ان اقول للوزير كلا ؟ ، في تلك اللحظات تلقيت الدرس الاول منه ، عندما قال : هنا تكمن مصيبة العراق ، عندما يقول الوزير او المسؤول كلاما او يأمر امرا فعلى الاخرين تنفيذه بصرف النظر عن النتائج والتداعيات ، وهكذا ضاع البلد ، .. ومنذ تلك اللحظة كنت اصارحه بكل شيء ، وفي كل مرة اتعلم منه درسا جديدا .. رافقته في العديد من سفراته إلى خارج العراق .. لم يدم بقاؤه في الوزارة طويلا ، فقد دفعت به المحاصصات بعيدا خارج المنظومة الحكومية في وقت كان البلد في احوج مايكون لرجل مثله .. ، الا انه لم يتوقف او يهن انما واصل نضاله من بوابات اخرى ، وكان محط اهتمام المرجعيات الدينية وقد رافقته في احدى زيارته لمدينة النجف للقاء المرجع الاعلى السيد علي السيستاني .. لم تنقطع علاقتي بالدكتور مهدي الحافظ ، فبعد خروجه من الوزارة فاتحني بمشروع فكري يتمثل بافتتاح مركز للحوار والتنمية فكان ذلك في شهر مايس 2005 عندما افتتحنا المركز العراقي للحوار والتنمية ثم تحول اسمه إلى معهد التقدم للسياسات الانمائية ، ثم اصدرنا مجلة الحوار لأتولى انا ادارة تحريرها منذ العدد الاول ..
كان الدكتور الحافظ حريصا جدا على مواصلة شوطه حتى اللحظات الاخيرة من حياته ، فقبل ان يغادرنا بايام تحدث معي عن العدد الاخير من مجلة الحوار وما هي المواد التي سيتضمنها ، قلت له عندما تتماثل للشفاء سيكون كل شيء على مايرام
طرق ابواب الاقتصاد بقوة فكان قامة اقتصادية يشار لها بالبنان من خلال الكثير من الطروحات والمقالات فضلا عن اسهامه الواضح في اعداد الخطط الخمسية وكتابة تقارير التنمية البشرية واخر مساهمة له كانت في المؤتمر الاول لخطة التنمية للسنوات 2018- 2022 في اربيل وقدم خلال المؤتمر ورقة كانت تحمل الكثير من الجرأة وقد اثارت جدلا كبيرا في اروقة المؤتمر .. كما طرق ابواب الفكر وخاض في السياسة .خوض المتمرسين المحنكين .
واذ اكتب هذه السطور الحزينة فانا على يقين انني لن اف الدكتور الحافظ حقه ولكن ان هي الا مشاعر جاشت فسطرتها كلمات مرتبكة فوق اديم الورق .. برحيل الدكتور مهدي الحافظ فقد خسرنا وخسر العراق فارسا من فرسانه الكبار .. انا لله وانا اليه راجعون
عبدالزهرة محمد الهنداوي
دروس مهدي الحافظ
التعليقات مغلقة