حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية
على الأرض شيء، وفي اللغة شيء آخر، ويُفترض أن يتطابق الاثنان، ولكن التطابق مستحيل. ففي العام 2007، مثلاً، استولت جماعة مُسلّحة على قطاع غزة. الزمن لا يكف عن التدفّق، ولكن عين الكاميرا جمّدت مشاهد لحظة فارقة في تاريخ الفلسطينيين، في صورة نرى مُسلّحاً مقنّع الوجه، يقف في مكتب الرئاسة بـ»المنتدى»، ويدوس بقدمه اليسرى صورة الرئيس عرفات. وفي صورة ثانية نرى ثلاثة مسلّحين مُقنّعين، يجلس أحدهم على مكتب الرئيس، يقف الثاني إلى يساره، والثالث يجلس القرفصاء، شاهراً «الكلاشن»، في حركة مسرحية، على سطح المكتب.
لا أحد من «المُصالحين»، و»المُتصالحين»، و»المُصْلحين»، و»المُصَلِّحين» يريد استرجاع ما تجمّد في الزمن ومنه، ولا يسعى للتفكير في أمور من نوع أن الصورة تحكي وتحاكي قصة قصيرة، وأن القصة تتكوّن من سيناريو وحبكة ومفردات بصرية، وأن لكل منها دلالة أبعد مما التقطته عين الكاميرا. في الصور ما يُعيدنا، مثلاً، إلى الصيد، أوّل أنشطة الإنسان على الأرض، وافتنان الصيّاد بالطريدة، التي لا تصبح ممكنة إلا بفعل القتل، وخوفه منها، وهوسه بها.
قبل زمن الكاميرا، تجلى الافتنان في رسوم على جدران المعابد، وفي زمنها لدينا ما لا يحصى من المشاهد البصرية لصيّادين مع طرائد قتلوها، وهم وقوف، أو يقرفصون حولها، أما الطريدة فينبغي أن تكون دائماً على الأرض. وقبل الفتوحات الكبرى في علوم النفس والإنسان، في قرن مضى، لم يفكر الناس كثيراً في معاني الذكورة، والفحولة، وعلاقة هذه وتلك بالسلاح، ولا بحقيقة أن الإسراف في التعبير عن فحولة مُسلّحة ينم عن ذكورة مجروحة.
الخلاصة، أن في مشاهد المُسلّحين المُقنّعين وصورهم ما يحيل إلى أشياء كهذه، وحتى وإن لم تتوفر الطريدة جسداً فقد حضر منها ما ينوب عنها بطريقة رمزية. لا تحتمل الصورة، في زمن الغابة القديم، أكثر من عفوية وعنف الغرائز، وإشباع حاجات أولية، وفي الأزمنة الكتابية، أي ما بعد القراءة والكتابة، موّهت الغرائز عفويتها وعنفها البدائي الأوّل بالتأويل ليصبح القتل صراعاً بالرموز وعليها، ويعثر في قصة الأخوين، قابيل وهابيل، على ما يترجم ضرورته، وتصعيده البلاغي والدلالي، في التاريخ.
وبهذا نتقدّم خطوة إضافية. فمِن قدِم مُقنّع تدوس صورة رجل يعتمر كوفية شعبه، ويبتسم للكاميرا، إلى مُقنّع على مقعد يُعتقد أن الرئيس أبو مازن جلس عليه (صورة الأخير، أيضاً، على الأرض إلى جانب صورة عرفات) ما يفتح المشهد على دلالات أبرزها تمثيل ومسرحة فعل الفوز والتشفي والكراهية بطريقة بدائية ومُهينة تماماً، وهل ثمة إهانة أكثر من وضع المنتصر قدمه على رأس المهزوم؟ وما أدراك كيف يكون الحال إذا كان المهزوم مثقلاً بحمولة الوطنية الفلسطينية، ومن صنّاعها على مدار أربعة عقود؟
ولنلاحظ، وهذا من محاسن الصدف، أن المسلّحين بلا ملامح يمكن التفرّس فيها، فهم يضعون أقنعة تقلل من فرص تفريدهم، أي التعامل معهم كأفراد، وتعزز من حضورهم كتجسيد لفكرة تمارس بهم، ومن خلالهم، فعل الفوز والتشفي والكراهية، وما هؤلاء، وغيرهم من الكائنات الشبحية، في مشهد الانقلاب، سوى قناع لفكرة أعلى وأبعد، كما صور المغلوبين وأجسادهم المادية والرمزية، ومقاعدهم، وستائر بيوتهم، وفناجين قهوتهم، وأعلامهم (يعني علم فلسطين)، مجرّد شواهد على، ومن تجليات، فكرة مضادة، أعلى وأبعد، ينبغي الانتصار عليها، والتشفي بها، والتعبير عن كراهيتها.
ما جمّدته عين الكاميرا في الزمن ومنه، وما زال كدم تخثّر في الذاكرة، هو كل ما تحاول اللغة التملّص منه، ونسيانه، بلعبة التناسي ورياضة فقدان الذاكرة. لذا، لا يتكلّم أحد من «المُصالحين»، و»المُتصالحين»، و»المُصْلحين»، و»المُصَلِّحين» عن الانقلاب، ففي السوق كلمة بديلة ومحايدة اسمها الانقسام، ولا يتكلم أحد من هؤلاء عن تصفية آثار الانقلاب، ففي السوق، أيضاً، كلمة بديلة ومحايدة اسمها المصالحة. وغالباً ما يتم تشحيم المرافعات ذات الصلة بمفردات عن الوحدة الوطنية، وطالع النحس الذي أصاب الفلسطينيين فضرب الأخ بأخيه.
علاوة على هذا وذاك، والأهم ومن هذا وذاك، أن التداعيات الدلالية لفعلي الانقسام والمصالحة، وما تكلّس عليهما من قشور الكلام على مدار عشر سنوات، تحصر الأمر، عن سوء أو حسن نية، في حركتين، هما: «حماس» و»فتح»، فالأولى «انقلبت» على الثانية كإجراء وقائي خوفاً من انقلاب الثانية عليها، وإذا تصالحت الأولى والثانية انتهى، بالمنطق، والتداعي الحر، الانقسام، وتحققت الوحدة الوطنية.
في منطق كهذا ما يمثل إهانة للفلسطينيين كشعب، لا لأنهم أكبر وأهم وأبقى من «فتح» و»حماس»، ولكن لأن الانقلاب (فكرةً، وتنفيذاً، ولغة، وبلاغة) كان محاولة للاستيلاء بالقوة العارية السافرة، وبالعنف الجهادي المُقدّس على الشعب نفسه، ومصادرة هياكله التمثيلية، وإعادة هيكلة نظامه السياسي. ولو كانت الطريق بين غزة ورام الله مفتوحة وآمنة لما توقف المُقنّعون بعد الاستيلاء على الأولى، ولكانت الثانية مربط خيلهم.
المفارقة أن الذي انقلبت عليه «حماس»، في غزة، بوصفه عنواناً لفساد وفوضى «فتح»، هو الذي لوّحت بورقته، في الآونة الأخيرة، في محاولة يائسة للإفلات من ورطة الحصار. فما الذي جعل من شياطين الماضي ملائكة الحاضر؟
بمعنى آخر، كان الصراع، وما زال، بين فكرتين عن الهوية والوطن والسياسة والعالم والإنسان (وأسلوب الحياة، والحب، والشعر، ومعنى الذكورة والأنوثة، إذا شئت)، على طرفي نقيض. لذا، يبهت في سياق كهذا كل كلام محتمل عن «الانقسام» و»المصالحة». ولا معنى لأشياء كهذه خارج التجليات السياسية والأخلاقية، المادية والرمزية، لعملية لا تحتمل تسمية سوى «تصفية آثار الانقلاب»، والاعتذار عنه، ومحاسبة مخططيه ومنفذيه. تشفى الجماعة القومية بإنطاق المسكوت عنه، لا بما في الصمت من رفاهية النسيان، وخرس الضمير.
تصفية آثار الانقلاب..!!
التعليقات مغلقة