حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية.
حظ «الأخت» أم مولدات في العالم العربي قليل. ليس لأنها تكتب بالإنكليزية وحسب، ولكن لأنها تدس أنفها في الثالوث المحرّم، أيضاً، أي تابو الجنس والسياسة والدين. وعلى الرغم من حقيقة أن المذكورة لا تقترب من السياسة، وتحاول جسر العلاقة بين الجنس والدين، إلا أن في مجرّد محاولة كهذه، وعلى طريقتها، ما يُوصد الأبواب في وجه حظ «يفلق» الحجر.
بداية، يصعب وصف «الأخت» أم مولدات بالمثقفة، أو النسوية، أو المعنية بأسئلة الوجود الكبرى.
كل ما في الأمر أنها ابنة زمانها ومكانها، فهي على الأرجح، وكما يُستدل من الاسم الحركي الذي اختارته لنفسها، من أصول غير عربية، ربما باكستانية، وما أفصحت عنه أنها مسلمة وُلدت في الولايات المتحدة، ودرست علم النفس، وأخذت على عاتقها «تثقيف» المسلمات في قضايا الجنس، فنشرت كتاباً (85 صفحة) بعنوان «كتاب الإرشاد الجنسي: دليل المُسلمة إلى جنس حلال يطيّر المخ».
وبما أن الكتاب يُقرأ من عنوانه، كما يُقال، فإن ما «يطيّر المخ» لا يتعدى كونه جزءاً من صناعة طويلة وعريضة لاستثمار الجنس، وما لا يحصى من تداعياته، في الدورة الاستهلاكية للمجتمع ما بعد الصناعي، وما بعد الحداثي، الذي تحظى فيه المتع، معطوفة على تسليم بكونها من الحقوق، ومرفوعة على ساعد لغة فصيحة وصريحة، بنصيب الأسد.
بمعنى أكثر وضوحاً، شغل «الأخت» أم مولدات مجرّد بزنس. ولستُ، هنا، بصدد تفصيل ما أوردته من تعليمات بشأن ما يُطيّر المخ، فهذا متروك للخيال، بل أكتفي بالقول إنها مجرد «قص ولصق» عن أوضاع وأجواء مختلفة، شائعة في ما لا يحصى من الكتب ذات الصلة المكتوبة بالفرنسية، والإنكليزية، والألمانية، وغيرها من لغات الكون، ما عدا العربية بطبيعة الحال.
وطالما أن الأمر كذلك، فما الذي استوقف منابر إعلامية من وزن الديلي ميل والغارديان، وحتى هفنغتون بوست (الخاضع لنفوذ القطريين والإخوان)، لتفرد مساحة لا بأس بها للكتاب وصاحبته، وما الذي حرّض بعض القرّاء على كتابة تعليقات إيجابية عموماً، لم يخل بعضها من نصائح لتفادي نقص في هذا الجانب أو ذاك في طبعات لاحقة؟
كلمة «الحلال» فقط. فلو لم تكن جزءاً من العنوان، ولو لم تدخل بين الثنايا في تفصيل هذا الوضع أو ذاك، لما توقف أحد أمام ثمان وخمسين صفحة تضاف إلى ملايين الصفحات في موضوع كهذا، وبعضها بالصور والألوان.
«الأخت» أم مولدات اكتفت بوضع وردة جورية صورة للغلاف. بيد أن في مجرّد هذا الوقوف ما يستدعي أكثر من تفسير، وفي هذه الحال، كما في كل حال، الصورة المُركّبة لا تحتمل التبسيط:
أوّل وأقرب تفسير أن «للإسلام» و»المسلمين» و»الحلال» و»الحرام» هذه الأيام سوقاً بحجم الكرّة الأرضية، فبعد القاعدة، وداعش، وتكرار عمليات الدهس والطعن في كبرى عواصم العالم، وبلا نهاية محتملة في وقت قريب، ثمة ما لا يحصى من الناس، في أربعة أركان الأرض، الذين يعنيهم معرفة هذه الأشياء، وما لا يحصى، أيضاً، من الراغبين بتعريفهم، وبين هؤلاء وأولئك بزنس، ورؤوس أموال، وصناعة، ومهارات دعاية وتسويق وتسليع.
وباستثناء الجامعات (التي يضطر أغلب العاملين فيها للقراءة والكتابة ركضاً وراء العلاوة والترقية) يغامر القليل من الناس «بهدر» الوقت في قراءة كتابات تاريخية، وفلسفية، ولاهوتية، واجتماعية، جادة. لذا، تحظى أدبيات من نوع كتاب «الأخت» أم مولدات، (ومَنْ هم في وزنها في شتى صنوف المعرفة) بفرص توزيع وعائدات أكبر.
بيد أن في تفسير كهذا ما يحيل إلى شيء آخر. فثمة حاجة للمعرفة، وصلة وثيقة بين العرض والطلب. وللطلب في موضوع كالجنس أهمية استثنائية مصدرها ما يكتنف موضوع النساء، والجنس، والذكورة والأنوثة، من خصوصية في سوق تعريف «الإسلام» والتعريف به في الغرب.
ومن المنطقي، في زمن انفجار الهويات، وسياسات الهوية، وإذا أسقطنا إكراهات السوق، التفكير في وجود أشخاص في الغرب يريدون التوفيق بين هوياتهم «الإسلامية» وأسلوب الحياة والاستهلاك في مجتمعات يعيشون بين ظهرانيها، بما في ذلك نظرة تلك المجتمعات وعلاقتها بالجنس، وهذا، بدوره، يقود إلى أمرين: التوفيق (الذي لا يخلو غالباً من تلفيق) أو إعادة إنتاج الهُوية نفسها، بدلا من رفضها والخروج عليها. ففي ألمانيا، مثلاً، تقوم امرأة من أصول تركية بدور الإمام في «جامع» تديره بنفسها، ويرتاده رجال ونساء.
طبعاً، لا «الأخت» أم مولدات، ولا السيّدة التي تمارس دور الإمام، يمكنهما العيش والعمل في العالم العربي، أو في بلدان إسلامية. فلا الاجتهاد في التوفيق، ولا إعادة إنتاج الهوية (بصرف النظر عن الجدية، والجدوى، وحتى النيّة) يمكن أن يتحققا دون شرط الحماية والحرّية.
وبهذا نصل إلى بيت القصيد. وبيت القصيد، هنا، حرّض وحض عليه كتاب بديع لكريستوفر دي بيلاجي «التنوير الإسلامي: الصراع بين الإيمان والعقل من العام 1798 وحتى الأزمنة الحديثة». وفرضيته الرئيسة، في هذا الشأن، أن المراكز الرئيسة في العالم الإسلامي: القاهرة، وإسطنبول، وطهران، انخرطت في الأزمنة الحديثة، بوتائر مختلفة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وتجلت فيها نزعات حداثية وتحديثية، وأظهرت حيوية مدهشة، ولكن المُحدثين والتحديثيين من حكّامها لم يعترفوا بالحرية، ولم يوفروا ضمانات الحماية للعقل.
ذلك لم يحدث، وحتى يحدث، لن تشكو كتابات «الأخت» أم مولدات، ومن في وزنها، في شتى صنوف المعرفة، من فتور الهمة، وكساد السوق، ولا ندرة ما «يُطيّر المخ».
كل ما «يُطيّر» المخ !
التعليقات مغلقة