أنمار مردان أنموذجًا في ديوانه (متى يكون الموت هامشا؟)
د. وسام حسين العبيدي
على اختلاف مقاربات الشعر ما بين سياقيّةٍ إلى نسقيّة، إلا أنّها لم تختلف في تحديد هويّته لا التجنيسية وإنّما النفسية، بوصفه تنفيسًا عن ذات الشاعر المبدع، لا هذرًا يُلقيه متى شاء إلى من شاء بأي ظرفٍ شاء، وبهذا يكون الشعر معادلاً موضوعيًا – بحسب اصطلاح ت. اس. اليوت- يُخفّف من وطأة تلك الغليانات المشتعلة في كيان الشاعر، ويجعله متوازنًا – نسبيًّا- ليمارس حياته بالشكل الذي يختاره.
والشاعر أنمار مردان، واحدٌ من أولئك الذين أقلقهم هذيان الشعر، فراح يصرُخُ موجوعًا ممّا يراه غير منسجمٍ في حياته، إذ لو تصفّحت مجموعته البِكْر (متى يكون الموت هامشًا..؟) لتجسّد لك ما أعنيه بالضبط، فهي بمثابة نزاعٍ يبتدأه الشاعر ولا ينتهي منه ليصل إلى نتيجة، بل كانت أشبه بنزاع ذلك الفارس الموسوس (دونكيخوته) بطل الرواية الإسبانية لمؤلفها (ميغيل دي ثيربانتس) مع طواحين الهواء متخيّلا تلك الطواحين فرسانًا يُقاتلهم، ولكن مع فارق، هو في ضآلة جسد دونكيخوته، الأمر الذي وُصِف بأنه (فارس الظلّ الحزين) في حين أنّ شاعرنا كان على العكس تمامًا، كذلك أنّ بطل الرواية استعان برمحه الطويل وسيفه الخشبي في منازلة أقرانه المتخيّلين، أما فارس هذه المجموعة الشعرية، فقد جعل من همومه سلاحًا وعدُوًّا يصارعه في الوقت نفسه، فلم يملك سوى تلك الصرخات التي يصحو على إثرها ولم يجد غير فراغ ما حوله، وبقائه وحيدا في عالم ذاته المهجور، فيقول يائسًا:
فما عاد شيءٌ يُلهِمني
لا البكارةُ التي دقّت ناقوسًا قلمهُ الوقتُ
لا بنات الليل الحالمات بأنماطٍ كسرت بوح الكون
لا الأنهُرُ التي تغسلُ دمعتي بفرحتها
لا ثمار الجنة وإن كان عطرُها ناضجًا
ولا أحذية الجنود التي زرعت في مؤخراتها
أنْ أكون هنا أو أكون هنا
ولليوم تموت هناك..
فلم يكن لدى الشاعر أملٌ يرتهنُ إليه غير الموت، وبهذا تحضر الثيمة المركزية في هذه المجموعة، ألا وهي ثيمة (الموت) وقد أحسن في جعله عنوان تلك القصيدة عنوانًا لمجموعته بأجمعها، فالموت يحضرُ لا لأجل أنْ يكون خاتمةً طبيعية يؤول إليها كلُّ حي، بل يحضر بوصفه متنًا يملأ حياة الشاعر ويُؤثّث كل ما يحيط به، ولذا كان الشاعر سعيدًا بتلك الحفاوة التي يُقدّمها إليه ذلك المتن الخانق، متحدّثًا لنا عما سينظره وكأنه ذاهبٌ إلى نُزهة، فيقول:
بعد حذفي
أصبحُ أكثر ابتسامةً من الريح
وأكثرَ شراهةً من الغيم
وأكثرَ فراسةً
وسفيرًا مُقنعًا للنوم
وأكونُ مقدّسًا
وزميلاً حميمًا لفتونةِ مُنكرٍ ونكيرٍ
وهما يزرعانِ ثأر السجائرِ
التي تراقصتُ بدخانها حتى الصياح
بعد حذفي
لا تكتبوا شيئًا على قبري
أخاف الوحشةَ على اسمي
ولا تقرأوا إلا آخر قصيدةٍ
كتبتُها وتركتُها عاريةً ولم تسكُرْ
يتجسّد خوف الشاعر وتوجّسه من أنْ يُكتب اسمُهُ على قبره، ممّا يعني أنه لم يجد هذه الحياة جديرةً بأنْ يبقى اسمُهُ دليلاً يُشير إليه، فالأُنسُ إنما يتلمّسه هناك في ظلمة القبر، وبهذه الخاتمة يتوحّد الشاعر مع عالمه الأثير، فيجد أنّ الأواخر في كلّ شيء بوصفها الفنار الكاشف عن ذاته في آخر تحوّلاتها.
إنّ تعامُلَ الشاعر مع الموت لم يكن نتيجةً حتميّةً توصّل إليها، بل وجد فيه عالمًا يستنقذهُ من شعوره المزمن بالاغتراب في الحياة، لعلّ تلك الغربة نفسيّة استشعرها بما يجده من ضياع للقيم الأصيلة ومن احترام للكفاءات ومن إهمالٍ متعمّدٍ للمُبدعين الذين بفضلهم تتحرّك نسائم الأمل وتهتز على إثرها الطاقات لتبني المستقبل، ولهذا أخذ الشاعر يوصي من تعنيه تلك الوصيّة، أنْ لا يثيروا أيّ ساكنٍ إمعانًا في الازدراء بما يشغلون به أنفسهم من الاهتمام بأخبار المتوفّين من الشعراء، وبعكس ذلك كانوا في حياة الشاعر إذ لم يعنهم أمرُهُ، فيقول مستشرفًا:
بعد حذفي
أكونُ متخمًا بالصُحُف
ومحورًا شهيًّا لعناوينكم التالفة
وأعودُ لألفظكم شبرًا شبرًا
فلن أجد سوى صوتِ بخوركم
وهو يتناولني بالشبهات
يحرُث الشاعرُ وصاياه تلك بصمتٍ مسكون بهاجس الريب والخوف ممّا سيُثار عليه من رُكام الاستفهامات، فتتجسّد المعاناة التي يرسمها الشاعر عبر تلك الخيوط الرامزة إلى شتاته، عبر تلك الصُور المؤثّرة في المتلقّي بما تُضفي على تجربته لونًا سوداويًّا قد يقع تارةً في وهاد الانهزامية، إلا أنّ ما يشفع للشاعر أنّه يرسم ختام مشاهده بقصديّةٍ واضحة وكأنه ارتضى لنفسه أنْ يجد ذاته في ارتحالها عن هذا العالم، فالموت يمثّل رفضًا وتحدّيًا لوجودٍ لا يُحقّق ما يصبو الشاعرُ فيه من أحلام بريئة تجسّد طموح جيلٍ كامل في مثل هذا الزمان.