نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 16
المكتب الاستشاري للأبنية الصناعية و التوسع في اعمال الصناعات الزراعية
ازداد الطلب في نهاية ستينات القرن العشرين على بيض الدجاج كمادة غذائية غنية بالبروتين ورخيصة ، فازدادت الحاجة الى مشاريع اخرى مماثله ، بعد ان حددت وزارة الزراعة بيع البيضة الواحدة بسعر 15 فلسا. وبعد انتاج لحم الدجاج بهذه الكميات الكبيرة، اصبحت الحاجة ماسة الى انشاء تصاميم لمجزرة الدواجن . اختيرت منطقة الوزيرية في بغداد لانشاء مشروع مجزرة حديثة بمواصفات تقنية عالية غير متوفرة في العراق. ولهذا قمت بزيارة الى اوربا للاطلاع على مشاريع مماثلة في المانيا والدنمارك وفرنسا ، والاطلاع على تقنيات خزن البيض واللحوم لفترات طويلة. لقد كان علينا ان نضع (Blast Freezing) لغرض تخفيض درجات الحرارة الى 60 درجة مئوية تحت الصفر خلال ثلاثة ساعات، بغية خزن لحوم الدجاج بدرجة حرارة تبلغ 30 درجة تحت الصفر.وضعنا التصاميم الملائمة للتقنيات الحديثة المطلوبة لذبح الدواجن وتنظيفها وتوظيبها وخزنها بالشكل المتبع في اكثر البلدان تطورا.
بعد احاله المقاولة عليهما قام المقاولان يوسف ناصر وهيثم مخلص باعمالهما على الوجه الكامل بكل كفاءة ، ونفذا المتطلبات الفنية بجميع تفاصيلها لإنجاز المجزرة ذات قابلية 3000 طير بالساعة . وتم انجاز المشروع وبدأ الانتاج خدمة للمواطنين، واهداف وزارة الزراعة، لاول مرة في تاريخ العراق .
وقبل المباشرة بالانتاج في مشروع المرادية ، اصبحت الحاجة ملحة لانشاء معمل لعلف الدواجن ، وبيع الفائض منه الى المواطنين، دعما لمشاريع الدواجن الاهلية . وقد اختارت وزارة الزراعة موقعا للمعمل، مجاورا لسايلو الحبوب في منطقة العطيفية ببغداد .
ان صناعة اعلاف الحيوان بشكلها العلمي، تتطلب استعمال العديد من انواع الحبوب والعلائق المختلفة ، التي تضمن انتاج اعلاف لدورة حياتية وزيادة وزن الافراخ، ليكون 1,5 كغم بعد ستة اسابيع هذه العليقة وامثالها يتم وضع مناهجها في معمل الاعلاف الذي يحتوي على عدد كبير من السايلوات الصغيرة التي تحتوي على انواع الحبوب المختلفة والمواد الاخرى . وقد قدمت الينا شركة ( سايمون بارون ) البريطانية مخططات المعدات والمكائن التي تم شراؤها من الشركة نفسها. فقمنا بوضع التصاميم اللازمة لانشاء معمل يصل انتاجه الى عشرين طنا من العلف بالساعة الواحدة ، مع جميع المخازن المطلوبة لخزن المواد الاولية والمواد المصنعة.
احيل العمل الى المقاول يعقوب المنصور . وتم انجازه بهمة عالية وكفاءة . وخلال فترة 18 شهرا تم انجاز اعمال البناء ونصب المعدات والمكائن ، والبدء بعملية الانتاج بكفاءة . ونجحنا مرة اخرى في حلقة جديدة من حلقات الصناعة المتطورة للدواجن، بجهود عراقية مخلصة. لقد كانت فترة جميلة من التحدي والاندفاع، اثمرت نتائج باهرة جديرة بالتذكير والتنويه .
وكان نجاحنا المتوالي (كمكتب استشاري بقيادة اخي قحطان المدفعي وتفرغي للعمل على المشاريع الزراعية الصناعية ) دافعا لمواصلة العمل على هذه المشاريع المفيدة. كما ان زيادة طلب السوق على هذا النوع من اللحوم ، في الوقت نفسه الذي شهد انخفاضا في اعداد الثروة الحيوانية من الاغنام والابقار في البلد . فاعتمدت وزارة الزراعة سياسة التوسع في انشاء هذه المشاريع ، واقر المجلس الزراعي الاعلى مبدأ انتاج (الف مليون) بيضة سنويا. فكلفنا بشكل سريع في وضع التصاميم لمشروع للدواجن في الصويرة، لانتاج 70 مليون بيضة سنويا .
احيل المشروع الى المقاول عبد القادر كركي وتمت المباشرة بهذا المشروع في موقعه في مزارع الصويرة ، على طريق بغداد ـ الكوت. وفي الوقت نفسه االذي كان العمل يجري فيه، كلفنا بوضع التصاميم لمشروع آخر في ضواحي مدينة الديوانية، لخدمة مواطني منطقة الفرات الاوسط. وقد احيل المشروع الى المقاول المهندس هشام عريم. كما طلب الينا وضع التصاميم لمشروع صغير لانتاج لحوم الدجاج في موقع بين الحلة وكربلاء. واحيل الى المقاول نامق قزاز. وانجز قرب مدينة الحلة بكفاءة عالية وجهد متميز .
اتسعت اعمال مكتبنا يوما بعد يوم، ونلنا سمعة طيبة في الاوساط الهندسية والحكومية. كان شقيقي الاستاذ قحطان المدفعي يقوم بجميع الاعمال التخطيطية والمعمارية، واشاركه في اتخاذ القرارات الرئيسة للمشاريع التي توكل الينا. وكان لدي (في الشركة العامة للدواجن ) ساعة واحدة صباح كل يوم مع الدكتور ( قرني الدوغرجي ) مدير الشركة العامة للدواجن لشرب القهوة، فاقدم له تقريرا كاملا عن سير اعمال المشاريع وتقدم العمل فيها. كانت للدكتور قرني قابلية كبيرة وامكانية عالية في ادارة الاعمال واستغلال الوقت. ورغم المسؤوليات الجسيمة لادارة شركته ومشاريعها، كان يقوم يومئذ ترجمة كتاب The Animal Farm لمؤلفه الكاتب المشهور George Orwell، وهو كتاب تضمن نقدا للحكم الديكتاتوري. والطريف انه بعد ان اكمل ترجمة الكتاب، ارسل نسخة منه هدية الى وزير الزراعة. وبعد اسابيع ــ على ماحدثني به الدكتور قرني ــ، اجابه الوزير بكتاب شكر على جهده في ترجمة الكتاب، وشكر وزارة الزراعة لاضافته معلومات جديدة لتطوير الثروة الحيوانية.
بدأت الحاجة تظهر لمشاريع اخرى في الصناعات الزراعية، والحاجة لطاقات خزن اكبر، ولاسيما الخزن المبرد. واتجه الاهتمام الى انشاء مشاريع لاصول الدواجن، وهي المشاريع التي تعمل على انتاج دواجن من سلالات لها خواص وراثية تمكنها من انتاج افراخ متطورة وراثيا، لاستعمالها في مشاريع الوزارة. ومن هنا عملنا على وضع التخطيطات لمشروع دواجن الخالص، ومشروع اصول الدواجن على طريق بغداد سامراء.
وظهرت الحاجة الملحة لمخازن مبردة لخزن البيض والبطاطا وسائر الخضار. ولم تكن تقنيات مثل هذه المشاريع متوفرة في العراق. وكثيرا ما كنت قبل البدء بتنفيذ اي من هذه المشاريع، اسافر لزيارة عدد من البلدان الاوربية، للاطلاع على التقنيات المستعملة، والمفاضلة بينها بما يلائم العمل في العراق، واقتناء ما متوفر من مصادر ومراجع ونشرات علمية حول تلك المشاريع. فزرت فرنسا وانكلترا والمانيا ولبنان وغيرها، للتعرف على انواع المخازن المبردة لخزن المواد الغذائية من لحوم وبيض وخضار . وبحث متطلبات تصميمها وطرق الخزن الامثل ودرجات الحرارة المناسبة . واطلعت في لبنان على المخازن المسيطر على مناخها الداخلي environment control stores ، وهي المخازن التي يسحب الهواء من داخلها ، وتضغط بدلا عنه غازات اخرى تجمد الفواكه حياتياً لفترة من الزمن ، ثم تبدل هذه الغازات بالهواء الطبيعي المبرد لانضاجها بالوقت المطلوب وارسالها الى السوق .
قمنا بوضع عدة تصاميم لمخازن البطاطا المبردة في الصويرة وابو غريب ومخازن لحفظ البيض في مدينة جميلة في بغداد . انجزنا جميع تلك المخازن بنجاح على فترات وفق التقنيات الحديثة .
عمل معنا في المكتب الاستشاري لمشاريع الابنية الصناعية عدد من الرسامين والمهندسين ، منهم المهندس المعماري عدنان اسود المسؤول مع قحطان عن الاعمال المعمارية في مكتبنا الرئيسي دار العمارة، والمهندس غازي عبوش والمهندس غياث احمد الذي ساعدني في الاشراف ، والمهندس صبري تلو المتخصص باعمال مسوح الكميات . وكنت اطلب لمساعدتي ما احتاج من مهندسين من دار العمارة ، كلما دعت الحاجة . اما تصاميم الخدمات الكهربائية ، فكنا نعهد بها الى مكتب ابراهيم الشيخ نوري او مكتب الدكتور مثنى كبة او مكاتب اخرى . اما الاعمال التخصصية الحساسة ، فقد كنا نقوم بها مع مهندسينا في دار العمارة احتفاظا بالمعلومات داخل المكتب .
ومن المشاريع الصناعية الزراعية :
ــ بموجب متطلبات الابنية الموضوعة من قبل الشركة الالمانية (Lohman) المتعاقدة مع الشركة العامة للدواجن قمنا بوضع التصاميم والاشراف على الدور التجريبية للدواجن في ابو غريب وحقول دواجن المرادية ومجزرة الدواجن ومخازن اللحوم في الوزيرية وحقول دواجن الصويرة وحقول دواجن الديوانية وحقول دواجن الحلة المختبر البيطري في الوزيرية ومجزرة الاغنام والابقار في كركوك ( لم ينفذ ) ومعامل الطحين ( 20 طناً في الساعة ) في بغداد وكركوك والموصل والبصرة ومعمل علف ميسان ( 20 طناً في الساعة ) في العمارة مع مخازن 8000 طن حبوب ومعامل العلف ( صغيرة 8 طن / ساعة ) في ثماني محافظات ومخازن مبردة للبصل والبطاطا في ابو غريب .
كان العراق من أول الدول العربية الذي توسع بالصناعات الزراعية وادخل المكننة والالكترونيات في هذه الصناعات .
اسهم مكتبنا دار العمارة في العديد من المشاريع الصناعية الزراعية وذلك تنفيذاً لسياسات الدولة في حينها .
المتغيرات السياسية في العراق لم تسمح للاستمرار بالمناهج المذكور هذه. شيدت وزارة الزراعة مشروع تربية دواجن بالمداجن المغلقة في معظم محافظات العراق لإنتاج بيض المائدة ولحوم افراخ الدواجن لإنتاج اللحوم بشكل منظم معلب يباع بشكل طري او مجمد للمواطن . كما اتجهت وزارة التجارة الى تجربة انشاء المخازن العمودية مما دفع دار العمارة بالاشتراك مع شركات سويدية متخصصة لتقديم عروض متطورة للخزن العمودي التي تعمل الكترونياً . كما اتجهت وزارة التجارة كذلك الى تصنيع ارغفة الخبز بالطرق الميكانيكية الالكترونية مما دفعني لجمع معلومات عن التصنيع الميكانيكي للخبز بدأ من مدينة «لايبزك» في المانيا الديمقراطية في حينها وقدمنا دراسات كاملة لجدوى انشاء معمل في كل محافظة بالطرق الميكانيكية والخزن المناسب. كما اتجهت وزارة الزراعة الى انشاء سوق الجملة المركزي لمدينة بغداد وهو السوق الذي يعمل على استلام المنتجات الزراعية من الفلاح وجمعها وغسلها وتوضيبها وتدريجها ميكانيكا والكترونياً كيما تباع الى اسواق الجملة بعبوات منظمة قياسية على ضوء مواصفات السوق الاوربية المشتركة . خصصت الاراضي لهذه المشاريع وقمنا بوضع التصاميم المناسبة لكل من هذه المشاريع بعد منافسة شديدة بين المكاتب الاستشارية .
عدا ما انشأ من قبل وزارة الزراعة في مجال صناعة الدواجن لإنتاج اللحوم والبيض في محافظات العراق.
من المشاريع الزراعية والصناعية والتجارية التي اعتمدتها الدولة في ستينات وسبعينات القرن العشرين للانتقال من مرحلة زيادة الانتاج بالطرق اليدوية عن طريق القطاع الخاص الى ادخال مشاريع غزيرة الانتاج الحديثة المسيطر عليها ميكانيكياً والكترونياً وأدخال المكننة الحديثة .
العمل مع الشركات الاستشارية العالمية
لم يكن العمل مع الشركات الاستشارية الهندسية العالمية أمر مألوف بين الاستشاريين في العراق ولم يكن هناك اي محذور من التعاون على الاعمال الاستشارية سوى الحصول على الموافقات الامنية الاصولية التي حرصت على الحصول عليها من الجهات العليا . كان اختيار شركة (MSI) الاميركية لدار العمارة بالعمل على ابنية مشروع المايكروويف هو المفتاح في مباشرة تلك الاعمال . ادناه ابين بشكل ملخص تعاون دار العمارة على العمل مع عدد من الشركات العالمية على مشاريع كبيره تسجيلاً لبدأ التعاون مع العالم على مشاريع في العراق :
مشروع شبكة المايكروويف الوطنية:
في سنة 1973 حضر الى بغداد ممثل شركة MSI ( الشركة العالمية لخدمات المايكروويف وهي شركة اميركية متعاقدة مع وزارة المواصلات ) . وبعد اتصاله بعدد من المكاتب الاستشارية العراقية للاطلاع على مستواها الهندسي ، بغية الدخول في اتفاق لوضع
التصاميم الهندسية لأبنية (36) محطة من محطات شبكة
المايكروويف في انحاء العراق من شماله الى جنوبه . وكانت دراسات المشروع قد تمت اولا من قبل خبراء من الاتحاد السوفييتي ، الا ان مهندسي وزارة المواصلات وخبرائها قرروا ان تلك الدراسات لا تحقق اهداف المشروع وفق الرؤية العراقية ، فتم اختيار شركةMSI الاميركية لوضع التصاميم والاشراف على تنفيذها .
اختير مكتبنا دار العمارة للعمل على هذا المشروع . ومسؤوليتنا كانت تثبيت مواقع المحطات لوضع الابراج الحاملة لأقراص نقل الموجات المايكرووية ، ووضع التصاميم والاشراف لجميع الابنية المطلوبة لعمل المحطات وابنية الخدمات والصيانة ، مع سياجات لحماية المحطات وشبكات الطرق والبنى التحتية في المحطة . ومن مسؤوليتنا ايضا ، الكشف على المحطات التي تتفاوت مواقعها ، من محطات واقعة فوق الجبال كمحطة جبل مخمور وشمال الموصل وجبال مضيق بازبان ، ومحطات تقع فوق ابنية مشيدة ، الى محطات في المناطق السهلة في غرب هور الحمار وعلى الطريق الصحراوي الرابط بين البصرة والناصرية .
تجولت مع ممثل الشركة الاميركية على بعض مواقع المحطات
لبحث متطلبات تصاميمها . وكان علينا ان نثبت مواقع المحطات استنادا الى المخططات المرسلة من مقر الشركة في واشنطن . كانت ترسل الينا مخططات وخرائط دقيقة للغاية ، ومن الغرائب ان اسماء بعض المواقع مقدم باللغة الكردية . لابد ان الشركة الاميركية قد اعتمدت في وضع المخططات على الاقمار الصناعية .. ولكن كيف حصلت على الاسماء باللغة الكردية ؟ . وتم الاحتفاظ بالتصاميم والمخططات والخرائط في دار العمارة كمراجع للعمل .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة