رواية عبده خال (ترمي بشرر) ..

تنوعات التأويل وجماليات المكشوف
القسم السابع

ناجح المعموري

صار الهرب من الناس حلماً جديداً لطارق، هرب حقيقي ينقذه من عيون أفراد عائلته والجماعات التي يعرف، وهربه يعني الاعتراف بالسقوط والخزي [ كان آخر السقوط، استقرت الأنقاض في مواقعها] ص378 لحظة المواجهة الحقيقية والأخيرة وسط بيت إبراهيم وضعته أمام سقوط مربع، لم يعلنه عيسى الرديني وأسامة عندما كان يلتقيهما بالقصر وسأل عن مرام، ويستمع منهما قليلاً عنها. حتى حانت اللحظة العارمة/ الصادقة التي هزت كيانه وعرف بأنها أخته من أمه، مرام بنت غيث التي أقام معها حكايات عشق وهيام وربما كان ذلك تعويضاً عن قطيعة كبيرة حصلت مع أمه منذ زواجها. لم يرها أبداً، وسمع بأن له أختاً من أمه، وحاول إبراهيم أكثر من مرة إحضاره للبيت وإشراكه بقضية مرام أو حضور وفاة والدته. لم يستجب للدعوتين وظل يحمل آثارهما في داخل روحه إلى انتهى في تراجيديا مماثلة لنهايات مماثلة في مأساويتها لنهاية كل من وليد وعيسى مع التباين بين النهايتين. وما يهم في القرارات التي يتخذها سيد القصر هو التعطل الكامل لمن يقترح معاقبته. بتر الذكورة قطع الألسن، القتل/ الإدخال لمستشفى الأمراض النفسية، أو تعطيل البصر تماماً. وكشف الملحق الفوتوغرافي، بعد المتن الحكائي عن أسماء ست وعشرين فتاة، هن اللاتي احتفظ لهن طارق فاضل بملفات خاصة تتوفر على معلومات خاصة بكل منهما، وتمثل-الملفات- أرشيفاً خاصاً قدمه طارق لعبده خال، ويوضح هذا الملف سقوط الفتيات وكيفية حصول ذلك [ مع مجيء كل واحدة، أحرص على فتح ملف خاص بها، يحمل نبذة عنها، وصورة لها- إن أمكن- ومجالات اهتماماتها، ومدى خطورة الاقتراب منها، وأوضاعها الأسرية، وحالتها الاجتماعية، أغلبهن يمنحني معلومات خاطئة، فألجأ إلى الصديقات، كل صديقة تخبر عن حالة صديقتها، وكل واحدة منهن تنبش في سيرة الأخرى، حتى إذا جمعت المعلومات المتضاربة أوثق المتطابق منها] ص182
تضمنت الرواية هامشين عن مرام وعيسى وتأتي أهميتهما لارتباطهما مع أثنين من الشخوص وحاول الروائي في هامش مرام الإشارة للصعوبة التي واجهته بجمع المعلومات عن مرام، ويبدو بأن صديقيه وأبناء محلة الحفرة يعرفان انتسابهما الأسري وتكتما عليه، أما الهامش الثاني والخاص بعيسى الرديني وتبيان سبب سقوطه. واتفقت الآراء حول انهيار سوق السهم بوصفه جزءا من مخطط للمؤسسة السرية في القصر، وأيضاً تم سرقة البلد وتكبيل المواطنين بالقروض طويلة الأمد، وحتماً كان لتذبذب سوق الأسهم تأثير كبير على الطبقة المتوسطة وهذا هامش مهم للغاية، لأنه الخلاصة الجوهرية للانفجار المالي وصعود الكثير من الأبرياء وانهيارهم والقضاء على البرجوازية المتوسطة ورسم الملحق الفوتوغرافي بعد المتن الحكائي صورة دقيقة للانهيار الاجتماعي والثقافي وتفكك العائلة، مقابل صعود طبقة عقارية مفاجئة وبناء قصور فخمة ونجاحها بالسوق الاقتصادي والتجاري ولم يكن للثروة النفطية مردود ايجابي واضح على المستوى العام للمواطنين .
استعرت بالانتباه في رواية «ترمي بشرر» اعتمادها على الوثنية، التي هي خارج السياق الفني المألوف ومثال ذلك رسالة «هنور» المنشورة صورتها ولذلك دلالة فكرية، مقصودها دقة المعلومة التي لم تشر لها الرواية عبر تفاصيلها. كذلك الانشغال بالملحق الفوتوغرافي الذي تحدثنا عنه قبلاً. ونشر الفوتوغرافي كاشف عن نمطية المرأة وحياتها والممنوعات المسيحية لها، لا حرية لها غير أن ترى بعينيها، وهذا أمر ينطوي على تسطح وسذاجة، تعمدت إلغاء جسد المرأة كله، وعطلت مواقع الإثارة فيه، ووظفت هذه الثقافة عينيّ المرأة فقط بمعنى حصل اختزال للجسد الأنثوي المثير، بالعينين فقط، وبهما اعتمدت الأنثى/ المرأة على إرسال شفراتها للرجل أو التحاور معه واستجمعت الأنثى كل مواطن الأنوثة في جسدها بالعينين الموظفتين شهوانياً وقدمت الرواية كثيراً من الشواهد على سقوط الفتيات وانهيار النسوة عبر خطاب العينين فقط. أما الوثيقة الأخيرة –طبق الأصل- الإيهامي، لأن الروائي أوجد لروايته شهراً يوهم بأنه محرم، بينما كشفت الوثيقة بأنه «المحرم» وكأنه يطلق صرخته في نهاية الرواية للتعامل مع كل ما ورد فيها من حكايات باعتباره «المحرم» كما تنطوي على احتمال ينطوي على أن الطقوس والممارسات هي المحرم الذي لم يستطع توفير ثقافة ردعية قادرة على كبح الأنثى أو الذكر، والامتناع عن مزاولة الطقوس أفضل من ممارستها وبالنتائج التي تحصل دائماً .
على الرغم من أننا قرأنا الإهداء باعتباره تحية لجمع المؤنث المحكوم بواو الجماعة. قدمت رسالة هنو معلومة صريحة عن علاقتها مع طارق الذي ارتأى أن تكون حكايته بإهداء لهنو، التي أرسلت له رسالة حب وتهاني بمناسبة نجاحه، ويبدو بأن «هفوة الاسم السري لتهاني، أو هي الاسم الذي أختصر كل الفتيات اللاتي واجهن اضطهاداً متنوعا. والرسالة إحدى وثائق طارق ولأن [الحياة تحتاج دائماً لمقبرة] اقترح عبده خال برزخاً لأحداث، أو هياكل لها ميتة، لم تستوعبها حياة السرد وفي هذا البرزخ تركيز على النفايات بالحياة ومن لفظتهم العلاقات، وكثير من الوقائع سكنت مقبرتها قبل الوقوع أو بعده، والمقبرة هي مكان الدفن المألوف والمعروف وهناك نوع آخر من المقابر، هي التي تستوطن المخيلة. والمقبرة [ مهمة للجميع، يقف بين أحداثها ليرى أن الحياة تتجمع في مكان واحد] ص384.
وأهم الأجزاء السردية هو « مقطع من جلسة سبقت كتابة هذا السرد] وفيه قص طارق كل التفاصيل التي أعتمدها عبده خال بكتابة روايته «ترمي بشرر» وأعتقد بأن هذا المقطع الملحق بعد المتن الحكائي أضاء لنا جانباً بنائياً في هذه الرواية، وهو شخصية طارق الجوهرية ولكن الروائي تدخل في هذا المقطع السردي عبر نقله لما نشيت صحفي نشرته جريدة الوفاق عن مقتل معتوه ، وهو طارق فاضل .
تثير رواية عبدة خال أسئلة كثيرة مع وجود إجابات استدعتها بنائية الحكاية الواسعة لشبكات حكائية متناسلة من بؤرة المكان لتخلق عدداً لا بل حشداً من الشخوص الكثيرة، رجالاً ونساء. في الرواية مكان أول هو حي الحفرة الذي يمثل تشكلاً عشوائياً لمساكن من وفد الى مدينة جدة وبالتتالي تشكل حي متسع وبدور كثيرة مبنية بعمارة نمطية وتقليدية مماثلة لمساكن القرى والتجمعات الريفية فالبيوت صغيرة وضيقة مشيدة بطراز معماري كاشف عن الدخل المادي الخاص بالعائلة فالبيوت لها شبابيك مفتوحة مثل التي مألوفة لنا في العمارة الطينية حتى وان كانت لطابقين مثل بيت «صالح الخبيري» والد تهاني الذي هرب من نافذته عشيقها طارق فاضل. وحي الحفرة تجمع مدني كاف لإيضاح مستوى السكان الاقتصادي وثقافتهم الاجتماعية والدينية.
وتكاد تكون ثقافة هذا الحي خليطاً من ثقافة البداوة والمدينة التي يعيش الحي على هامشها. انه حي عشوائي البناء وبدون توفر نظام منظم للشوارع والساحات، فهي –الشوارع- قد تكونت استجابة لرغبات السكان، لذا كانت ملتوية وليست مثل الشوارع الخاضعة لهندسة محددة وواضحة، تجعل منه حياً سكنياً مكتفياً بما توفره المدينة، ولهذا أشارت الرواية في نهايتها بأنه حي جهنم، فيه نماذج متمردة على السائد الاجتماعي واخترقت ما حملته البداوة معها من ضبط وانسجام وكان هذا الحي- الحفرة – هو الرحم الذي أنتج الشخوص الذكرية في الرواية وان كان البعض منها نسويه لكنها ثانوية الأدوار مثل العمة خيرية وصفية. حتى نهايات شخوص الرواية من الرجال والفتيات التي تحولت في خاتمة حياة من الانحراف والمتعة اختارت ثقافة البداوة وسلطة الدين من أجل التخلص من رواسب عشرات السنين التي تمخض عنها العمل في قصر السيد الأسطوري، على الرغم من وجود إمكانات مع وجود مثل هذا القصر الذي بالقرب في البحر والذي لم يكتف به السيد فأبتنى قصراً ثانياً . والقصر هو بؤرة الحكاية الجوهرية وهو الحلم الجاذب للأطفال والفتيان الذين انشغلوا بتعداد مصابيحه ولم يستطع أحد منهم ، وظل قصر السيد حلماً للشباب من أجل الدخول إليه، وكان الخروج منه حلم أكثر صعوبة وتعقيداً، وكل من دخل إليه، ابتدأ بتقدم شيئاً فشيئاً نحو السقوط والرذيلة مقابل بعض المتع اليومية التي تجند لها رجال ونساء نشطوا لترغيب الشباب للعمل في القصر بصفات كلها رذيلة والنساء يصطدن الفتيات. وكان عيسى الثالوث ألصداقي مع طارق وأسامة هو الذي شجع كثيراً من الشباب لدخول الجنة الملتمعة ضوءاً في الليالي وعلى الرغم من خدمات كثيرة قدمها عيسى الرديني للسيد وعائلته جعله السيد يخسر ثروته الهائلة بلعبة سوق الأسهم التي كان السيد يديرها على وفق رؤيته، وبشكل مفاجئ جن عيسى وظل يجوب الشوارع عارياً، لم يستطع احتمال الصدقة القاسية ببياض رصيده الضخم وزواج موضي من ابن عمها العائد من القاهرة وبجائزة مزيفة، لذا قرر عيسى التخلص من السيد ، واقتحم عليه القصر ولم ينجح بمهمته وأسلمه لطارق الذي أدخله لغرفة التعذيب وأطلق عليه السيد رصاصتان خارج القصر .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة