خواتيم رحلة أرذل العمر

زينب الحسني

تلفتت يميناً ويساراً بعد ان حل الظلام بدأ المارة يتصدقون عليها بما جادت به ايديهم غير منتبهة ومبالية بهم، كان كل ما يشغل تفكيرها ما الذي أخرَ ولدها وعطلهُ عن المجيء لإخذها والعودة بها للبيت بعد ان أخبرها انه سيشتري «كارت موبايل ويعود لها فوراً».
أجلسها على مفترق الطريق بمكان تجهل اين يقع على خارطة العاصمة بغداد التي لا تعرف منها سوى حدود منزلها والمنطقة التي عاشت بها عمرها الذي افنته على تربية ابنها الوحيد الذي ما ان كبر وتزوج حتى ضاق بها وبوجودها في بيتها.
فأتخذ القرار بمساندة زوجته التي اختارتها له امه لتكون اماً لأبنائه وعوناً لها في حال تعبت او أصابها المرض الا انها لم تصل لهذهِ المرحلة وتم زجها في الشارع على يد فلذة كبدها وزوجتهِ.
مازالت تنتظر عودة الابن البار كان جل خوفها ان يكون قد اصابه مكروه منعه من الوصول اليها، لم تكن تعرف له رقماً وحتى عنواناً لكونها تجهل اين هي؟
مر الليل عليها كدهر ما بين الخوف والقلق والحزن، وما ان حل الصباح حتى بدأت بسؤال المارة اين هي؟ وبدأت تقص قصتها من دون ان تشك ولو لحظة بنظرات الذين اخبروها بان ولدها قام برميها.
كانت تريد ان يقوم أي أحد بطمأنتها عليه او ان يجد لها طريقة للوصول اليه عسى ان يرتاح قلبها وتتوقف عيناها عن البكاء على مصير ابنها المجهول.
مرت الايام وقام بعض من سكنة المنطقة بإيصال الطعام والماء اليها كانت ترفض في بادئ الامر الا ان عدم امتلاكها المال جعلها ترضخ للواقع وتقبل المساعدة على مضض.
أدركت بعد فوات الاوان ما قام به ولدها ولم تحمل عليه او تحقد بل اخذت تمنحه العذر بعد العذر الآخر عسى ان يأتي يوماً ويمر بالمصادفة او حتى عن طريق الخطأ حيث رماها.
اتخذت قطعة من «كارتون «فراشاً لها وكانت تغطي نفسها بعباءتها الرثة.
كان الاستجداء هو المصدر الجديد لتوفير لقمة العيش لها بعد ان طال تواجدها بالشارع، لم تعد تبكي او تنوح كما كانت تفعل اكتفت بالصمت الذي تحول الى رفيقها الدائم، كانت عندما ترى شاباً بعمر ولدها تصدح بالضحك وتسير بخطوات مخذولة منكسرة تتذكر كيف أفنت حياتها من اجل تربية وتعليم وتزويج ولدها على امل ان ترى احفادها يكبرون حولها وامام عينها اللتين بدأ النور يفارقهما شيئاً فشيئاً.
حاول بعض اهالي المنطقة اقناعها بضرورة ايداعها في احد دور ايواء المسنين الا انها رفضت واخبرتهم ان ولدها اختار لها هذا المصير وهي قبلت به عسى يأتي يوما ويقوم ابناؤه برميه على قارعة الطريق كما فعل هو.
من دون زيادة او نقصان، وان لا يقوموا بوضعهُ في دور الايواء، ارادت ان يلامس جسده اسفلت الرصيف كما كانت اضلاعها تئن من خشونته، وان يجرب شمس الصيف وبرد الشتاء وقسوة نظرات الناس اليه، ليس حقداً منها عليه انما ارادت ان يشعر كما كانت هي تشعر بفرحه وحزنه والمه ومرضهِ.
وبالرجوع الى احصائية وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نجد انها سجلت خلال العام الماضي اكثر من 50 حالة متفرقة لقيام ابناء برمي ذويهم على قارعة الطرقات وتركهم على اسرة المرض في المستشفيات الحكومية , فضلاً عن تسجيل حالات مماثلة للإيداع في دور ايواء المسنين , وهذا يعد مؤشراً واضحاً على وجود ظاهرة جديدة على المجتمع العراقي لم تكن موجودة خلال العقود السابقة تتمثل بالتفكك الاسري الواضح وعدم وجود رادع ديني واخلاقي واجتماعي يمنع من اتساع هذا التصرف الذي لا ينم الا عن وجود خلل اجتماعي وشرخ اخلاقي واضح في المنظومة الاجتماعية التي اخذت بالتهشيم والانحدار خلال العقود الاخيرة اذ شهدت تغيرات جذرية طالت جميع مفاصل الحياة حتى باتت تشكل قيماً ومفاهيم جديدة كانت منبوذة في السابق واصبح المجتمع يتقبلها برحابة صدر من دون أي استهجان لها .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة