في العراق بدأت الدولة مطلع القرن الماضي مع مجتمع بسيط لكنه حقيقي وفعال، يتوزع سكانه بين الريف، والبادية، والحضر أي المدينة، وتختلف طبقات الناس فيه عن اوروبا الغربية فلا يوجد ارستقراطيون بل اقطاع، ولا برجوازيون بل صناعيون وتجار، اضافة الى رجال دين مؤثرين على المجتمع، وبيوت علم وادب وسياسة، وهؤلاء يشكلون الطبقة البرجوازية الوطنية.
بعد الثورات والانقلابات التي شهدها العراق تكونت اوساط وطبقات جديدة عمادها اصحاب السلطة، وكبار القادة والضباط، وابناء المسؤولين الكبار، والبيوتات المقربة منهم، بغض النظر عن مستوى التعليم والثقافة، والسلوكيات التي يمكن ان ترتقي لمجتمع النخبة او المجتمع الراقي او الطبقة الراقية.
صار بامكان أي شخص ادعاء الانتماء للوسط الراقي، مادام الابواب مخلوعة والطبقات مفتوحة على بعضها والزحف من مجموعة الى مجموعة أخرى امر يسير، نعم فقدنا معايير تصنيف الرقي، ومادام غابت ملامح وهوية المجتمع الراقي الذي يمكن ان يكون بكل بساطة مرادفا للثروة والمال، او السلطة والقوة، او النسب النبيل، او المكانة الاجتماعية، او المكانة العلمية، ولكن المال بالطبع هو الوسيلة الانجح لتصدر كل التصنيفات.
ومادام تكاثر وتعاظم عدد الاثرياء لدينا منذ ايام الحصار من سنة 1990 لغاية 2003، ايام حلويات التمر الزهدي، وصبغ الملابس بعد زوال الوانها، وتحوير البطانيات الى معاطف وقماصل، ايام بيع وشراء ابواب المنازل الخاوية، وخردة الاثاث، وسكراب ماتبقى من المعارك، ايام بدايات فن النصب والاحتيال والمتاجرة بقوت الناس.
ثم الدخول الى العراق الديموقراطي من بوابة الفرهود والحواسم، واختيار سكن جديد في عاصمة اخرى ربما تكون بيروت، او عمان، او دبي، واختيار تصنيف جديد بالمال مجهول المصدر، وبالثروة التي لاتخضع لقانون يتتبع مصدرها، ولا الى مجتمع قوي يحاسب اخلاقيا من يدعي امتلاكها.
اكيد بعد كل هذا ستكون المرحلة التالية سعيا للفساد المالي واستغلال السلطة ونهب المال العام، الذي نشهده اليوم، مادام بالسرقات تبنى الطبقات الراقية، وبالمال المجهول النسب والحسب يتشكل الانسان الراقي، والنتيجة حتما ثراء فاحش، واثرياء جدد كانوا بالامس مواطنين بسطاء، او عاطلين عن العمل، او سراقا ولصوصا، لايهم… فالنتيجة انهم تحولوا الى واجهة المجتمع الراقي لانهم حصلوا على المال.
سيمر الكثير من الزمن… ونحن سنكرر ونعيد المشكلة نفسها.. ونطرح الاسئلة ذاتها.. من هو الراقي؟ ماهي مميزات الرجل الراقي؟ وماهي مواصفات السيدة الراقية؟
ربما المظاهر الفخمة، واقتناء اغلى الماركات، ومطاردة الجديد منها، وربما تعلم النساء بعض المقاطع التمثيلة الكاذبة لمحاكاة تلك المظاهر، او اقتباس عادات من مجتمعات مجاورة، او الابتعاد عن الله وعن قيمنا وموروثاتنا الدينية والاجتماعية.
وفي كل الاحوال هي فوضى لامعايير تحكمها، ولافهم مشترك للناس يرفض هذا ويقبل ذاك، كل شيء صار يباع ويشترى، والمال الحرام هو من يصنع الراقي في نظرنا نحن المتمسكين باذيال ماتبقى من قيم ورثناها عن الماضي، ولايتقبلها الفعل المضارع الفاقد لوجود الفاعل الحقيقي كونه مبنيا للمجهول.
عباس عبود سالم
الراقي.. ذلك الفاعل الغائب
التعليقات مغلقة