بانتظار السمرمر

ابتسام يوسف الطاهر:

منذ البداية بل ومن العنوان (انتظار السمرمر) نستشف الجهد المبذول في البحث عن غرائبية الاسماء والمفردات في بطون اللغة العربية… ربما الكثير من القراء لم يسمعوا بطائر السمرمر من قبل (لسذاجة) أو جهل بعالم الطيور.. والمغتربون العراقيون كانوا ومازالوا ينتظرون مثل طائر السمرمر الذي ينتظره الفلاحون ليساعدهم في التخلص من الحشرات لاسيما الجراد الذي قد يتلف محاصيلهم، فالمنقذ هو (السمرمر).
لم اقرأ الكثير للكاتبة فيحاء السامرائي سوى بعض النصوص التي نشرت على صفحات مجلة ادب فن الالكترونية. النصوص تلك اوحت بموهبة جميلة لكتابة نصوص بلغة اقرب للشعر، فيها جهد وبحث عن مفردات بلاغية اضفت على النص جمالية وحبكة تمنح شيئاً من الدهشة للقاريء، وهذا ما شجعني على قراءة باكورة اعمالها، روايتها أو محكياتها كما تسميها (انتظار السمرمر)، وعلى الرغم من ذكرها على غلاف الكتاب عن الرواية «بأنها حكايات من ذاكرتها ..من دون تتابع زمني، وخالية من أية لغة مشفرة نخبوية وعرة.» فالتتابع الزمني موجود في تسلسل الاحداث والموانيء التي زارتها البطلة بعد هجرتها القسرية من العراق الى سوريا ومن ثم لليمن والجزائر حتى تحط الرحال في لندن.. لكن الكاتبة ربما قصدت انها لجأت لما يسميه السينمائيون الـ(Flash back) .
فالرواية كانت اقرب الى يوميات الهجرة القسرية التي عاشها اغلبية العراقيين اليساريين في نهاية السبعينيات من القرن الماضي أي بعد استيلاء صدام على السلطة كلياً، متبوعين بالمحاصرين والهاربين من حروب البعث العبثية.
أما عن اللغة فإنها حقاً ليست وعرة تميزت بانسيابية الحوارات وتداخل الأغاني والأشعار مع اللهجات التي تدل على جنسية الميناء. أما انها ليست نخبوية فهنا اختلف معها.. فمن الصفحات الاولى نجد المحكية الاولى مثقلة بتعابير رنانة فيها انشاء اكثر منه بلاغة مثلا: «بغدف طبيعة.. بغضاض دهشة.. واختلاج دفء.. يتفنن بسجايا خصب خوالب، بنسيم لاه بأماليد أغصان..سحائق ذكريات..الخ» وغيرها الكثير في ثنايا المحكيات. هذا يشير لجهد الكاتبة في البحث لاقتناص مفردة هنا، وتعبير وأشعار من هناك.
لابد ان يكون لجهدها هذا ما يقابله دهشة لدى القراء. خاصة وهي منذ البداية سدت منافذ التساؤل أو الاقتراحات عن طريق مقدمات لكل محكية على لسان البطل الاول (الكاتب) ففي مقدمة كل محكية هناك تفصيل توضيحي ونقدي عن ما سيقرأ، فالمحكيات كانت عبارة عن فصول متتالية لا حداث الرواية. وهي قد اطلقت عليها اسم (محكيات) لتسد باب التأويل على القاريء «المحكية الثانية فيها اصوات غزيرة قد ترهق القاريء.. انتقالات متواثبة متوالية في زمن وموضوع تصلح لسيناريو أو مسلسل أو فيلم. عبأتها بكم هائل من معطيات وملامح شخصيات من محافظ تقليدي، رومانسي، يساري ينتهي بانتهاء مسيرة سليمة لليسار» ص 231-232
حتى القواعد عدتها شيئاً غير مقدس وممكن عدم الالتزام به لتسد منافذ تهمة الاخطاء القواعدية، وعلى الرغم من ايحائها على لسان الكاتب البطل نفسه للرواية «ليس بالضرورة أن أكتب عن نفسي أو عن شخصيات حقيقية من واقع معين».. ولكن تغيير اسماء شخصيات الرواية لن يغير من واقعها سواء كان السرد موضوعياً أو ذاتياً، فالرواية تحكي سيرة ذاتية، ولكن بحذر وبلغة منتقاة كسرت الحظر على السيرة الذاتية، فهي تكاد أن تكون تابو آخر يضاف للدين والجنس في مجتمعاتنا المحافظة، والتي ترفض الكشف عن أي من خصوصيات الاسرة أو الفرد، فنقول إن الكاتبة هنا اثبتت شجاعة في الحديث عن حياتها، طفولتها وتشعب موانيء الغربة في مسيرتها الحياتية.
ما يؤخذ على الرواية ان الكاتبة اتخذت اسم (نيدابا) أي (الهة الكتابة) لبطلة المحكيات. لكنها لم تقترب من البطلة تلك ككاتبة!، بل من خلال تشعب حرماناتها وتفصيلات الغربة ومعاناتها قد يوحي الاسم بالندب، كذلك نيدابا ، ولسبب ما لم تكن بالوضوح كما هو الحال في الشخصيات الاخرى مثل ام هشام شقية، ولا مثل فردوس الأخت، وغيرها من الشخصيات الثانوية، فحتى مطيع الذي مرت عليه مرور الكرام، كانت له ملامح واضحة، في حين نيدابا بقيت هلامية تتنقل بين المدن لا نعرف عن مكنوناتها غير حبها الخالد لمخلد..وهذا لسبب ما لم يحفل بموضوع الارتباط بها الى هربه من واقعه المؤلم، ولقائها معه بعد عقود ولهفتها التي لم يقابلها بالمثل! لكن خيبة البطلة في تلك اللحظات لم تصل بها الكاتبة الى الصدمة التي يتوقعها القاريء! ربما ارادت ان ترمز به للعراق أو للحلم!
وبقيت نيدابا على الرغم من اهميتها، مجرد غلالة تخفي الملامح الحقيقية للبطلة، فلم تكن سوى متفرجة على الشخصيات الاخرى والأماكن، فقد نجحت فيحاء، في وصف الحواري والمدن الصغيرة التي زارتها أو التي سكنتها، في وصف دهشة المغترب التي هي غير دهشة السائح، في وصف الناس البسطاء هناك، فجعلت المدن والاشياء تحكي عن نفسها وبخطة مدروسة في بنية الرواية: السجن، مدينة السرو، مخيم، كابوس، رجولة، شارع، مقهى، صورة، انوثة، زيارة، جيش، اعتقال، هرب، مدينة الياسمين ..الخ من مسميات جعلت منها اسماء لفصول محكياتها ، فعلى الرغم من شجاعتها في توصيف الحالة العامة والاشخاص المحيطين بنيدابا، لكن نيدابا بقيت ظلاً مُسيّراً هلامياً لم تتمكن الكاتبة من جعلنا نتواصل أو نتعاطف معها، لنتخذها أنموذجاً للصمود بوجه المتاعب التي لاقتها في مسيرتها.
الرواية صدرت عن دار ومكتبة عدنان في بغداد، وهي الرواية الاولى لفيحاء السامرائي (إنتظار السمرمر) يضم عدة محكيات تصفها بانها حكايات من ذاكرتها كتبتها على شكل حكي انتقائي من دون تتابع زمني، وخالية من أية لغة مشفرة نخبوية وعرة. ومن عناوين هذه المحكيات: مرثية الزعتر ـ غبار عجوز ـ الشمس الباردة ـ الارض الطيبة ـ عصير الظلام ـ وغيرها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة