من حقنا أنْ نحتفي بالنصر العراقي، وأنْ نضع هذا النصر في سياقه السياسي والنفسي، لكن الأكثر أهمية في هذا الحق، هو وضع النصر في سياقه الثقافي، إذ تعني الثقافة هنا الوعي، والرؤية والمسؤولية، مثلما تعني القيم والممارسات..
الانتصار في معركة الموصل لاتعني تعبيرا عن تاريخية هذا الانتصار فقط، بقدر ماتعني –أيضا- أهمية التعرّف على حمولاته الرمزية، ودافعيته في أنْ يكون برنامجا لإعادة النظر الى كل ما أنتجته العملية السياسية منذ عام 2003 ، من مُعطيات وتحولات، إذ عاشت هذه العملية مواجهات في الرعب السياسي، وفي المحو الثقافي، حدّ أنّ كثيرين من (جند الدولة القديمة) راهنوا على خرابها، وفشلها، وعملوا على صناعة ماهو ضدي واكراهي..
فكرة الانتصار بمعناه الناجز هو انحياز للمستقبل، ولتجاوز أوهام الضعف التي حاصرت مشروع الدولة الوطنية، فداعش ليست ظاهرة أمنية أو طائفية فقط، بل هي مشروع تدميري لذلك المستقبل، ولأفق وجوده، كما أنّ الصورة السياسية للإرهاب الذي أنتجها لم تكن بعيدة عن بعض الصناعات الثقافية الموازية، والتي عمدت على الترويج للفكر الطائفي، ولتبرير العنف والقتل الجمعي.. ولعل ما كانت تضخّه بعض وسائل (الاعلاملوجيا) العربية والمحلية، يكشف عن ذلك التواطؤ بين جماعات ومؤسسات، وبين دول ومدارس فقهية ومرجعيات مخابراتية، إذ تحول هذا التواطؤ الى سلوك وممارسة والى فتاوى، وحتى الى دبلوماسية ومؤامرات، وهذا ما يجعل النصر في هذه المعركة فكرة فائقة، لأنها تُعبر عن فشل ذلك التواطؤ، وعن مشروعه، وعن عطالة مرجعياته ومؤسساته، مثلما كان هذا النصر تعبيرا عن ارادة ووعيٍ جديدين، أكثر سطوعا، وأكثر وضوحا في وعي شروط تلك المواجهة، ووعي جديتها في الدفاع عن المشروع الوطني، وفي الانحياز لفكرة النصر ذاتها، بوصفها فكرة للتجاوز، ولتعظيم معاني ارادة الانسان العراقي في رفض عوامل القتل والمحو والتهميش..
الموصل ليست مدينة عابرة في التاريخ العراقي، إنها روح الأمكنة، وإمتداد عميق في تاريخها، وأنّ احتلال داعش لها كان جرحا اخلاقيا ووطنيا وقيميا، لذا يكتسب النصر في هذا السياق بُعداً عميقا، وموقفا له خصوصيته في وعي التاريخ، وفي الدفاع عن معانيه، ودلالاته، لأنّ المنتصر هنا هو العراق الجديد، العراق الجامع، وأنّ المهزوم هو داعش التكفيري، داعش الاجرامي السلفي، وبكل مايحمله من نكوصات قامعة، وإكراهات ضاغطة على أيٍّ وعي بالحق والعدل والتنوع والتعدد والقبول بالآخر…
فشل مشروع الارهاب في الموصل، هو الانتصار الذي تكامل مع الارادة العراقية السياسية والعسكرية، ومع وعي حاجاته الثقافية والانسانية، والتي تحتاج الى مسؤوليات جديدة، والى رؤى أكثر فاعلية في استلهام معاني هذا النصر، وتكريس دروسه في الميادين كافة، لاسيما الميدان الثقافي الذي نسعى الى توسيع حلقاته ودلالاته، وتعزيز مساراته، وقيمه، وبرامجه ليكون تعبيرا عن قيم انتصار حقيقي وواقعي للدولة ولمؤسساتها، ولمستقبلها، ولصورة العراقي الجديد، الأكثر انفتاحا، والأكثر وعيا، وحاجة لمواجهة تحديات المستقبل..
مؤسسة الانتصار هي القوة الدفاعية التي نأمل في تأسيسها، وفي الاعلان عن مشروعها الثقافي، وعن سطوع فكرتها، لأنها ستكون رمزا لفكرة المؤسسة الوطنية، ولمشروعها التحديثي الذي استطاع اسقاط أوهام داعش، ومشروعها التخريبي الماضوي، وشرعنة روح الانطلاق نحو حرية التفكير بالمستقبل، وحرية البناء والنقد والتنوير والخلاص من ادران تاريخ ظل يحاصرنا طويلا بالأشباح واللصوص والقتلة…
علي حسن الفواز
ثقافة الانتصار
التعليقات مغلقة