الجزء الثاني
د. علاء الدين الظاهر
شجاعة البعثيين او بالاحرى غيابها
كان البعثيون ينهارون بعد اعتقالهم ويسارعون لنشر اعلانات البراءة من حزبهم في الصحف. كان صدام التكريتي اصلب البعثيين واكثرهم قسوة لكن عند اعتقاله بعد فشل محاولة انقلابية قبل تنفيذها في تشرين الاول 1964 قال لضباط مديرية الامن العام « لا تضربوني سأعترف بكل شئ » كما ذكر ذلك في حينها لوالدي، مدير الامن العام المقدم رشيد محسن. لم ينكر صدام ذلك اثناء محاكمته بعد سقوط نظامه مبررا اعترافاته بأنه قام بذلك لحماية احمد حسن البكر من الاعتقال واضاف ارقاما خيالية لعدد من اُعتقل من البعثيين حينها. سخافة هذا الادعاء ان البكر كان معتقلا وكان قد تم اعتقال بضعة عشرات من البعثيين الذين كانوا سيشاركون في المحاولة الانقلابية. اضع هنا الرابط لمقطع من محاكمة صدام يُقر فيه بتقديم إعترافه للجهات الامنية عن نشاطات حزبه.
يتوهم من يتصور ان سلطات النظام العارفي كانت تخشى البعثيين. في 5 حزيران 1968
تصدر احمد حسن البكر مظاهرة بمناسبة مرور عام على هزيمة حزيران وكان يقف الى جانبه آمر الانضباط العسكري العقيد صعب الحردان والى الجانب الآخر صدام التكريتي الذي هرب من السجن قبل سنتين. لو كان صدام خطرا على النظام العارفي وهو الهارب من السجن لتم اعتقاله في حينها ولم يتُرك في مقدمة مظاهرة يحميها الانضباط العسكري.
سُئل مرة خيرالله طلفاح عن سبب ضعف او الاحرى جبن وزراء صدام فكان رده بذيئا وبعبارات جنسية تعبّر عما يفعلوه بالشخص قبل استيزاره. اُدركُ تماما ان ادعاء طلفاح لا يمت للحقيقة بصلة لكنه يُعبّر عن الغياب الكامل للعمود الفقري للبعثيين. أنظرُ بكثير من الشفقة على من يهاجمني من البعثيين خصوصا اولئك الذين لم يفتحوا افواههم او ينشروا مذكراتهم إلا بعد سقوط نظام صدام او اعدامه وهم يعيشون في اوربا منذ عقود. رغم ارهاب نظام البكر ـ صدام وتصفياته لكل معارض كان رد والدي قاسيا عندما اتصلت به الاستخبارات العسكرية لتدعوه لإستقبال البكر من احدى جولاته الداخلية: « من هو احمد حسن البكر حتى اخرج لإستقباله؟ هل هو ملكة بريطانيا العظمى؟ ». لي عم ضابط في الجيش عرُف بالشجاعة والجرأة. ولي قريب لم يتورع عن الاشارة في وسط الكلية التي كان استاذا فيها وامام زملائه، لم يتورع عن الاشارة الى البكر بـ « احمد حسن البقر ». وأنا كنت اقول لمحمد ابن البكر (الذي قضى لاحقا في حادث سير): « سلّم لي على ابوك ابو ياخة الوسخة ». اعطت شقيقة البكر الكبرى رقم هاتف رئيس الجمهورية المباشر الى اخي الطبيب الاقدم في مدينة الطب عندما كان يعالجها للاتصال بشقيقها اذا كنا بحاجة الى شئ. اتصلنا بالبكر من بيتنا فأجابنا: « احمد » فصرخ به اخي « لك يا احمد؟ » ثم اغلق اخي الهاتف بوجه رئيس الجمهورية. اقول لاولئك الذين يهاجموني: « اعرفوا قيمتكم ».
هل ورث دواعش 1963 ثورة 14 تموز؟
ادعى دواعش 1963 (كما ادعى ذلك دواعش 1968) بأنهم الورثة الشرعيون لثورة 14 تموز كما ادعى عبدالسلام عارف بأنه كاتب البيان الاول لتلك الثورة بل اراد ان ينتزع اعترافا بذلك من عبدالكريم قاسم قبل ان يقترف مع بقية الدواعش جريمة قتله في دار الاذاعة. حسنا، كان هناك نصب حديدي في الزاوية بين جسر الجمهورية وشارع السعدون عليه نص البيان الاول للثورة وبتوقيع القائد العام للقوات الوطنية المسلحة من دون اي ذكر لإسم عبدالكريم قاسم. لماذ تم إزالة هذا النصب لو كان دواعش 1963 الورثة الشرعيون لثورة 14 تموز وكان عبدالسلام عارف كاتب البيان الاول؟
على العكس. كان دواعش 1963 الاعداء الشرعيون لثورة 14 تموز وقادة الانقلاب المضاد للثورة. بدأوا بالانقضاض على كل خطواتها التقدمية مثل قانون الاحوال الشخصية ثم اعادوا المقامرة في سباق الخيل واعادوا نفوذ شيوخ العشائر واعترفوا بالكويت ولم ينفذوا اتفاقية الاتحاد الفدرالي التي تفاوض عبدالكريم قاسم من اجلها سرا مع الكويت وكانت جاهزة للتوقيع رسميا، وهم ادعياء الوحدة.
ولم يكتفوا بجرائم القتل والتصفيات الدموية بل اصبح اغتصاب النساء سياسة رسمية من سياسات دواعش 1963 تماما كما فعل دواعش 2014. اين اخلاقهم وسلوكياتهم من اخلاق عبدالكريم قاسم وحكومته؟
التآمر المستمر
كان والدي يأخذنا في وقت الفراغ في جولة بسيارته داخل او خارج بغداد. في احدى هذه الجولات كنا بالقرب من منطقة علي الصالح حيث يقيم احمد حسن البكر. قرر والدي التوقف لزيارة صديقه وتركنا في السيارة. عند عودته كان والدي غاضبا بعض الشئ وقال لوالدتي «هذوله ما دا يكعدون راحه». قمت بالاحتجاج بشدة لانني لم العب بصخب مع اخوتي. لم يرد والدي لكن والدتي ذكّرتني بالحادث بعد سنوات وقالت ان والدي كان يقصد ان البكر كان في اجتماع مع بعض المتآمرين على عبدالكريم قاسم. من المرجح ان البكر طلب من والدي الانضمام لكن والدي رفض.
التآمر كان يجري في عروق اعداء عبدالكريم قاسم. فبعد كل المؤامرات ضده ونجاحهم بالإطاحة بنظام حكمه، بدأوا يتآمرون على بعضهم البعض مثل مؤامرة عبدالهادي الراوي وجابر حسن الحداد ضد البعثيين في ايار 1963. ثم جاءت مؤامرة حازم جواد للتخلص من علي صالح السعدي وجماعته تبعها محاولة منذر الونداوي ضد حازم جواد. وبعد نجاح انقلاب 18 تشرين ثاني 1963 اجبر عبدالسلام عارف نائبه احمد حسن البكر على الاستقالة لأنه لم يثق به وهو يغادر الى القاهرة لحضور مؤتمر القمة. احمد حسن البكر نشر كتاب استقالته في الصحف معلنا اعتزاله السياسة والانصراف لتربية اولاده. ولم تمضِ عشرة شهور حتى تم اكتشاف مؤامرة بعثية يقودها البكر لقصف طائرة عبدالسلام عارف وهو في سفرة ثانية الى القاهرة. وبعد الافراج عنه اتصل البكر بالضباط الحركيين عارضا التعاون معهم للانقلاب على عبدالرحمن عارف ثم حالفه الحظ عندما اتصل به المقدمان الغبيان عبدالرزاق سعيد نايف وابراهيم عبدالرحمن دواد للاطاحة بعبدالرحمن عارف بعد ان رفض عدة ضباط آخرين التعاون معهما. اما مجموعة الضباط الحركيين فقد تآمرت على عبدالسلام عارف في ايلول 1965 ثم على عبدالرحمن عارف في حزيران 1966 وبعد ان افرج عنهم عبدالرحمن عارف عام 1967 واعاد بعضهم الى الخدمة، بدأوا بالتآمر عليه من جديد. ثم هرب من استطاع منهم الهرب الى القاهرة خوفا من سادية البعثيين بعد انقلاب 17 ــ 30 تموز 1968.
دعني اقتبس ما يلي مما نشرته عام 2000. بداية الاقتباس:
(لا نخشى اتهام عبدالكريم قاسم بـ « ضرب الأحزاب ببعضها » لأنه كما أوضحنا يهزم ذات من ذات من يستخدمه بل نرفضه لأنه ليس بيت القصيد. نرفضه لأنه يركز على « ردود الأفعال » ويحمّل « مسئولية » ردود الأفعال. ونحن نريد مناقشة « الأفعال ». ونريد مناقشة « مسئولية » الأفعال. ما هو الفعل؟ ومن قام به؟ عدا ذلك سندخل في متاهات التعمية على الأحداث. وسنصبح شركاء في جريمة تزييف التاريخ.
الباحث المنصف يجد بأن كل ما قام به عبدالكريم قاسم هو رد فعل تجاه هذه الأحداث الدموية المتعاقبة والتي كانت الساحة السياسية تفرضها عليه فرضا ومن دون سابق إنذار. وحتى حركة الشواف فوجئ بها ولم يكن مستعدا لها فعلى سبيل المثال عين ثلاثة ضباط في يوم واحد ليحلوا محل الشواف كان أحدهم من المشتركين مع الشواف. والثاني وجدوه مصادفة لكونه اقدم الضباط في مدينة الموصل.