علي محسن إسماعيل
منذُ بدايةِ هذا العامِ بدأ البنكُ المركزيُّ العراقيُّ باعتمادِ معاييرَ ترجيحيةٍ محدّدةٍ تتعلّقُ باشتراكِ المصارفِ في نافذةِ بيعِ العملةِ الأجنبيةِ (الدولار)، ويأتي ذلك بعد ما يقاربُ سنةً من الإعدادِ والاستشارةِ لوضعِ هذه المعاييرِ بصيغتِها الحاليةِ، إذ تمَّ إعطاء هذه المعاييرِ درجاتٍ نسبيةٍ معيّنةٍ يُشكِّل مجموعُها الدرجةَ النهائيةَ للمصرفِ، والتي تحدِّد بدورها حصّته من الكمّيةِ المباعةِ من العملةِ الأجنبية يومياً.
ووفقاً للنظامِ الجديدِ يكونُ البنكُ المركزيُّ قد وضعَ عمليةَ بيعِ الدولارِ في إطارٍ يستجيبُ لمتطلّباتٍ قانونيةٍ وتنظيميةٍ ورقابيةٍ محلّيةٍ ودوليةٍ، ويعتمدُ مبادئَ الإفصاح والشفافيةِ والموثوقيةِ، بما يرتقي بالنظامِ الماليِّ إلى مستوى الممارساتِ الدوليةِ.
فما هي دواعي هذا التصنيفِ وما هي المعاييرُ المعتمدةُ فيه وآلياتُ تحديدِها؟
لقد تمَّ اعتمادُ هذا التصنيفِ من أجلِ تحقيقِ مجموعةٍ من الأهدافِ القانونيةِ والاقتصاديةِ يقفُ في المقدِّمةِ منها:
1. متطلباتُ النظام المالي الدولي
لقد أدّى ارتفاع مخاطرِ عملياتِ غسلِ الأموال وتمويل الإرهاب إلى اهتمام المنظمات الدولية بوضع قواعد وإجراءات محلية ودولية لمواجهة مخاطر تلك العمليات من اجل حماية النظام المالي والمجتمع، ويُشكِّل الالتزام بتلك القواعد والإجراءات من قبل الدول والمؤسسات أساساً جوهرياً في العلاقات والقنوات المالية الدولية، أي إنِّ الدول والمؤسسات المالية من مصارف أو غيرها اصبحت علاقاتها وعملياتها المالية الخارجية مرهونة بدرجة امتثالها وتطبيقها للقواعد والاتفاقيات الدولية بهذا الشأن، ووصل الأمر إلى استبعاد كياناتٍ، بل دولٍ، ووضعها في خانة الحظر بسبب ضعف أنظمتها وإجراءاتها وبيئتها، وفقاً لمايطلق عليه (Derisking). إذ تقوم المؤسسات المالية الدولية بقطع منافذ الدخول إلى النظام المالي الدولي أمام شركات ومصارف محلية بسبب ارتفاع المخاطر المتعلّقة بالجرائم المالية.
من جهة أُخرى، وإذ إنَّ العراق يتعامل بنحو رئيس بعملة الدولار (نظراً إلى كون الدينار مربوطاً بالدولار)، وإنّ معاملات البلد الخارجية تتمُّ به فإنّ ذلك يجعل العراق خاضعاً لإجراءات وقواعد تداول وانتقال الدولار الاميركي التي يضعها البنك الفدرالي الاميركي والخزانة الاميركية التي تهدف إلى مراقبة والتحري عن حركة الدولار للحدِّ من عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وبذلك يترتّب على الدول (ومنها العراق) أن تصمّم القواعد والإجراءات والأنظمة اللازمة لمراقبة حركة الدولار والتعرّف على مسارات استخدامه وانتقاله من مكان إلى آخر.
إنّ الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي في تطبيق قواعد ومبادئ مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب نتج عنها إخراج العراق من المنطقة الرمادية ضمن تصنيف وتقييم منظمة العمل المالي (FATF) المعنية دولياً بهذا الموضوع، وكان العراق مهدّداً بوقوعه في منطقة الحظر الدولي، والذي يعني غلق منافذ النظام المالي الدولي أمام العراق.
إنّ إلزام المصارف بتطبيق قواعد الامتثال وقيام البنك المركزي بوضع أنظمة وبرامج وتعليمات فضلاً عن عملية ربط بيع الدولار بالالتزام بها، مع مراقبة فعّالة لكل ذلك، أعطى المنظمات الدولية رسائل إيجابية الأمر الذي ترتّب عليه إعادة تصنيف العراق وإخراجه من خطر الحظر المالي.
2- متطلبات تطبيق قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
فرض قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التزامات على المؤسسات المالية تتخذ بموجبها إجراءات العناية تجاه العملاء بدءاً مــــــــــن التعرّف على هُوية العميل والمستفيد الحقيقي والإجراءات المتعلّقة بفتــــح الحسابـــــات والوثائـــــــق والتحويلات…. إلخ، ووضع سياسات وإجراءات وضوابط دقيقة تتوافق مع الالتزامات المفروضة في مجال المكافحة.
وكلّف القانونُ البنكَ المركزيَّ أيضاً بوصفه السلطة الرقابية والإشرافية على المؤسسات المالية، كلّفه ــ فضلاً عن مهامه ــ بتطوير إجراءات التفتيش ووسائل ومعايير متابعة التزام المؤسسات المالية بتعليمات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وإذ إنّ عمليات بيع وشراء الدولار تجري في المؤسسات المالية (المصارف) بشكل أساس، وهي تنطوي على عمليات مهمة من حيث حجمها الكلي، فإنّها تتطلب مراقبة تطبيق قواعد الامتثال عند المصارف التزاماً بقواعد المكافحة وفقا للقانون من حيث التحقّق من مصادر الأموال (الدينار) ومنها تطبيق مبدأ (اعرف زبونك)، ومن حيث التحقّق من الاستخدامات النهائية والوسيطة وذلك للتدقيق في سلامة وطبيعة تلك العمليات، وقد اسند القانون إلى محافظ البنك المركزي وضع التعليمات اللازمة للعناية الواجبة من قبل المؤسسات المالية، ومن الطبيعي ان يُراقب البنك المركزي مدى الالتزام بتلك القواعد والتعليمات ويضعها معياراً أساساً في تضييق وتوسيع دخول المصارف إلى عمليات بيع وشراء العملة الأجنبية.
إنّ جوهر التصنيف يرتكز على مدى التزام المصارف بقواعد مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تحت معيار (الامتثال) الذي يتضمّن جملةً من المعايير التي ترتبط بإجراءات المصارف بتلك القواعد من الجوانب كافةً.
3. متطلبات الارتقاء بأداء المصارف
إنّ المعايير التي تمَّ وضعها تُمثّل حافزاً مهماً للارتقاء بأداء المصارف، إذ تدفع باتجاه إعادة تنظيم العمل المصرفي في إطار تنظيمي ورقابي وقانوني يدرأ عنها المخاطر ويرتقي بمستــــــــوى العاملين فيها، إذ ألزم البنك المركزي المصارف باستحداث وحدات أو أقسام يمكن أن تسهم في ذلك، من قبيل إدارة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وإدارة الامتثال، وإدارة المخاطر، وتقوية أقسام الرقابة الداخلية، وتطبيق مبادئ الحوكمة المؤسساتية التي قوامها تعزيز الرقابة والإفصاح والشفافية.
لقد شهدت المصارف منذ تطبيق معايير الدخول إلى نافذة بيع العملة طيفاً واسعاً من الإجراءات كاستحداث وحدات وتعيين ذوي الاختصاص والخبرة، وتعيين مراقبي حسابات دوليين، وكل ذلك يصبُّ في خدمة الارتقاء بالقطاع المصرفي ، وتوفير مؤشرات عن سلامة عملياتها بما يمكّنها من التعامل مع العالم الخارجي وفتح قنواتها المالية مع المؤسسات المالية الدولية، التي أصبحت تولي المؤشرات التي انطوت عليها المعايير الموضوعة عناية كبيرة.
4- متطلبات استقرار أسعار الصرف
تساعد المعايير الموضوعة في دعم استقرار سعر صرف العملة المحلية الذي يُمثّل أبرز أهداف السياسة النقدية، إذ إنّ وضع عمليات بيع وشراء الدولار على أسسٍ وقواعد سليمة من شأنه الحدّ من ظواهر التلاعب والمضاربة وإلغاء الوسطاء (ممن استحوذوا على الهامش الأكبر من فرق سعر الصرف)، فقد انحسر دور الوسطاء بشكل كبير بسبب إلزام المصارف باتّباع القواعد والتعليمات التي أصبحت تنعكس على درجة المعايير ومن ثَمَّ على حصّة المصرف في دخول النافذة.
ومن أجل تحقيق الأهداف المذكورة فقد تمَّ اعتماد سبعة معايير لتصنيف المصارف الداخلة إلى نافذة بيع العملة الأجنبية. فما هي هذه المعايير وما هي آلية تحديدها؟
ابتداءً لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ هذا التصنيف ليس تصنيفاً لأداء المصارف بنحو عام (وهو ما نذكره في نشرة البيع اليومية)، وإنّما هو يعكس درجة امتثال المصرف للقواعد المتعلقة بعمليات بيع وشراء العملة الأجنبية. أمّا تقييم المصارف العام من حيث أوضاعها العامّة (أداؤها وكفاءتها) فإنّه يجري على وفق معايير دولية أُخرى أبرزها المعيار الدولي (CAMELS) وهو بمنزلة إنذار مبكر تُصنّف المصارف بموجبه على أساس ملاءة رأس المال C ، وجودة الأُصول A ، والإدارة M ، والربحيةE ، والسيولةL وتحليل الحساسية لمخاطر السوق ، التي يتمُّ التعبير عن كل عنصر من عناصرها بعدد من المؤشرات المالية، وقد قام البنك المركزي بإجراء هذا التقييم في عام 2013 من قبل مكتب تدقيق دولي، ونظراً إلى مضي سنواتٍ عدّة على ذلك فإنّه يجري العمل حالياً على إعادة هذا التقييم ونأمل أن ننتهي منه قريباً، إذ إنّه سيوضح أداء القطاع المصرفي ومدى كفاءة وأداء المصارف، وسيُمثّل جزءاً من المعايير الحالية المستخدمة في تصنيف المصارف لأغراض الدخول إلى النافذة.
أمّا بشأن تصنيف المصارف لدخول نافذة بيع العملة الأجنبية فإنّه يرتكز بشكل رئيس على أساس مدى التزام المصارف بقواعد مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعليمات البنك المركزي في إطار العناية الواجبة فضلاً عن الاستعمالات المشروعة للعملة والتحويلات إلى الخارج، إذ تمَّ تنظيم هذه العملية عن طريق عدد من المعايير والآليات التي يمكن توضيحها عبر النقاط التالية:
أولاً: معايير تصنيف المصارف
يعتمد التصنيف سبعة معايير أساسية تتفرعّ منها أُخرى فرعية يعطى لكل منها وزن نسبي يسهم في تحديد الدرجة النهائية للمصرف، وهي:
1. الامتثال (درجة الالتزام بقواعد وإجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب) ولها الوزن الاكبر.
2. الالتزام بتعليمات نافذة العملة الأجنبية.
3. معيار التعامل مع المصارف المراسلة من حيث كونها معتمدة ومصنفة دولياً.
4. تطابق كشوفات المصرف مع كشوفات المصارف المراسلة.
5. تلبية طلبات الزبائن ومن ضمن عناصرها عدد فروع المصرف.
6. الدعاوى القضائية ضدّ المصرف.
7. التعاقد مع شركة تدقيق دولية ، وياخذ بالحسبان تاريخ تأسيس المصرف ، إذ يتم تنزيل خمس درجات من درجات المصارف التي لم يمضِ على تأسيسها أكثر من سنة.
ثانياً: مراجعة التصنيف وتغييره
إنّ الدرجات الممنوحة للمصارف تتغيّر بشكل مستمر وفقاً لمدى التزام المصارف بالمتطلبات والإجراءات على وفق عمليات التدقيق والتفتيش التي يجريها البنك المركزي، أو عن طريق تقديم المصرف ما يثبت تحسّن الالتزام بمعيار أو أكثر، ويجري البنك مراجعة دورية للمصارف كافةً، وتشترك عدد من دوائر البنك وتشكيلاته في عملية التقييم بحسب نوع المعيار واختصاص الدائرة أو التشكيل ، ممّا يوفر مصداقية و موضوعية عالية.
ثالثاً: شفافية التصنيف
يقوم البنك المركزي بتزويد كل مصرف بالدرجات الممنوحة بحسب كل معيار وبحسب كل عنصر من عناصر كل معيار، ويُمنح المصرف فرصة الاعتراض أو إبداء الملحوظات، وتتولى لجنة عليا برئاسة نائب المحافظ وعضوية ملاك متقدِّم في البنك عملية مراجعة الملحوظات أو الاعتراضات ومقابلة المعنيين في المصرف، ويمكن تعديل درجة التقييم وفقاً لما يتم تقديمهُ من المصرف، علماً أنّ هذا الباب مفتوح دائماً أمام المصرف وفي أي وقت يشعر فيه بأنّه أحرز تقدُّماً في تطبيق القواعد المذكورة.
أخيراً لا بُدّ من القول: إنّ الأصل في الموضوع هو تحقيق رقابة فعالة وإجراءات احترازية يتطلبها القانون العراقي وتستوجبها التزاماتنا بالاتفاقيات الدولية وعضوية المنظمات الدولية المعنية، وإنّ الالتزام بهذه المعايير يؤدي إلى تجنّب الوقوع في مخاطر الجرائم المالية وغلق منافذ المؤسسات المالية امام عمليات تمويل الإرهاب، ويؤدي أيضاً إلى الارتقاء بالعمل المصرفي العراقي وتمكينه من مد الجسور والقنوات مع المؤسسات المالية الدولية المعتمدة.
وهنا نقول للبعض ممّن قد يتضررون من هذه الإجراءات: إنّ الضرر عليهم سيكون أكبر في حال عدم الالتزام بها، إذ يعرضهم عدم الالتزام بالمعايير المذكورة إلى نتائج خطيرة على عملهم من قبيل مخاطر السمعة، والمخاطر القانونية والقضائية، ويغلق أمامهم منافذ التعامل الخارجي.
إنّ البنك المركزي وهو يرتقي بعمله إلى مستوى الممارسات الدولية الأفضل فإنّه يتطلع إلى دعم واسناد من قبل المعنيين لتمكينه من أداء دوره ومهماته، ويؤكد للجميع أنّه مستعد لتقبُّل كل ملحوظة أو نقد على أن يكون نقداً بنّاءً وموضوعياً يجري على وفق قنواته المؤسساتية حفاظاً على سمعة هذه المؤسسة ودورها في تطوير النظام المالي، ولا سيّما في ظل الأزمة المالية التي نمرّ بها والتحديات التي أفرزتها وذلك لحفظ الاستقرار الاقتصادي في العراق عبر تحقيق الاستقرار المالي والنقدي.
* محافظ البنكُ المركزيُّ العراقيُّ