الإثبات العلمي والإثبات القضائي

جعفر كاظم المالكي
قاضي عراقي
يتفق الإثبات العلمي مع الإثبات القضائي في انه يعتمد على المجهود الانساني او العقلي الذي يهدف الى التحقق من واقعة غير معروفة او متنازع فيها عن طريق مجموعة متناسقة من الوقائع المعروفة، لكن هناك فرق واضح بين الإثبات القضائي والإثبات العلمي يتعلق بالأشخاص او المكان او الوسيلة او النتيجة.
ففي ما يتعلق بالأشخاص فان الاثبات القضائي يقوم به الخصوم انفسهم اما الاثبات العلمي فيجوز ان يقوم به أي شخص تتوافر له وسائل البحث العلمي، وفي ما يتعلق بالمكان فان الاثبات القضائي يجري كقاعدة عامة امام القضاء اما الاثبات العلمي فيجري في مكان اخر غير ساحة القضاء.
وفي ما يتعلق بالوسائل فان الإثبات القضائي وفي نطاق المنازعة المدنية بصفة خاصة يعتمد على طرق حددها القانون اما الإثبات العلمي فانه يعتمد على كل الوسائل العلمية المعروفة كالمشاهدة و التجربة العلمية وغيرها, وكذلك الأمر بالنسبة للنتائج فان المبدأ المتبع لدى القضاء هو حجية الشيء المقضي به والعكس من ذلك فان النتائج التي يصل اليها الباحث العلمي تعد مجرد فروض راجحة بصفة مؤقتة يجوز لأي باحث آخر ان دحضها او يتوصل الى ما يخالفها في أي وقت.
وهنا لابد من الإشارة الى الحقيقة القضائية والتي يعرفها الفقهاء بانها ما يثبته القاضي في حـــكمه نتيجة لتحريه حقيقة الواقع، وبالرغم من ان الحقيقة القضائية ينبغي ان تكون مطابقة بقدر الامكان للحقيقة الواقعية او العلمية فأنه قد يحدث اختلاف بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية او العلمية فالحق قد يكون موجودا من حيث الواقع لكن لا يوجد دليل مقبول على وجوده مما يؤدي الى عدم الاعتراف به امام القضاء وهكذا فان الحق يكون موجودا في الواقع و لكن ينكر وجوده امام القضاء.
وخير مثال على ذلك قرار الهيئة الموسعة المدنية في محكمة التمييز الاتحادية بالعدد 17/الهيأة الموسعة المدنية/2011 في 14/3/2012 و الذي اعتمد الحقائق الشرعية (فراش الزوجية ومدة الحمل) والقانونية في دعوى اثبات النسب ولم يأخذ بالحقيقة العلمية المثبتة في تقرير الطب العدلي الخاص بفحص الحامض النووي الذي جزم بعدم مطابقته مع الحمض النووي للمدعي والد الطفل بالرغم من ان نتائج الحمض النووي تكون قاطعة كحقيقة علمية طبية و بالرغم من ان المفارقة المحتملة بين الحقيقة الواقعية والحقيقة القضائية تؤدي الى صدور حكم قضائي ظالم, على خلاف وظيفة القاضي وهي ان يحكم بالعدل باعتباره هو نفسه العدل المجسم على حد تعبير ارسطو, لكن هذه المفارقة لا ترجع الى عيب في النظام القضائي بل ترجع الى القصور الموجود في كل عمل انساني وهو قصور لا علاج له.
ومهما بلغت وسائل التقريب بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية او العلمية فان القضاء على احتمال تبينهما مستحيل, و لذلك اصبح لزاما اعتبار الحقيقة القضائية هي حقيقة نسبية لا مطلقة أي انها لا تعد حقيقة الا بالنسبة الى طرفي الخصومة التي فصل فيها الحكم و في ما يتعلق بذات الموضوع لان حجية الحكم لا تسري على غير المتخاصمين و لا تتعدى الى سواهما.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة