«يوليانا» خطاب المحبة والسلام

غسان حسن محمد

ينضوي النص السردي على عنصرين متكاملين متداخلين هما: الحكاية والخطاب.، فبينما تمثل الحكاية المتن الموضوعاتي بمكوناته المختلفة: الافعال، الوقائع الشخصيات، الفضاء المكاني/ الزماني. يمثل الخطاب الكيفية التي يُطرح بها النص السردي.. وهما ( الحكاية والخطاب) مفهومان إجرائيان لا ينعتقان من مكونات النص ولا يملكان استقلالهما انطولوجيا..فالنص شامل كلياني باشتغالات واهداف ودلالات متآصرة..يخلق علائقة مع الكاتب ومع القارئ كمكونٍ جمالي معرفي يسعى الى بلوغ تفرده في عالم الكلمة..ثمة تساوق بيّن في رواية يوليانا للروائي نزار عبد الستار بين الحكاية والخطاب..شخصيات رئيسة واخرى ثانوية ..افعال واقعية ورؤى تحمل كشوفاتها في البحث عن احداث تؤثث الرواية بعناصر جمالية ومعرفية تؤدي وظيفتها باتقان ضمن النسيج السردي للرواية..توازن بين عناصر الحكاية الاساسية والحكايات والحبكات الساندة لها..اما على مستوى الخطاب فثمة تمثلات للصورة ومشهديات اعتكزت على صنعة السينما التي شغفت نزار عبد الستار بلغة الواقعية السحرية التي اجاد الروائي بنائياتها بلغة ادبية لم تعتمد التكلف بل صيرّت البساطة في الطرح وقوة الفكرة ودهشة الثيم مهاداً لبث عوالم الرواية.
ان يستغرق كاتب مثل نزار عبد الستار نحو (17) عاماً في بناء وتخليق رواية «يوليانا» يؤكد حرص الكاتب على فكرته وعلى وليده الابداعي الذي كثرت مسوَّداته ليطل علينا برواية «يوليانا» عن دار هاشيت انطوان2016م. مصدرا الرواية بموجه قرائي كان عتبة اولى للولوج الى مغزى واحداث رواية جاءت بالتزامن مع حدثٍ تأريخي الا وهو تهجير الاخوة المسيحين من مدينة الموصل بفعل الارهاب العام 2014م..(( الى الذين حملوا الصليب وخرجوا من الموصل في 19 تموز2014م)).
ولأنه شغوف بعالم السينما الكبير..يستثمر عبد الستار تقنية (الفلاش باك) بالعودة الى جذور الحكاية وهو يمهد لروايته بوثيقة تأريخية تبدأ في العام 1925م..عندما تقف سيارة موفد عصبة الأمم الى الموصل الكونت «تلكي» الزائر لدير القديسة بربارة والذي يرجح سيادة تركيا على الموصل والذي اساء الى العراقيين والى معتقداتهم الروحية بوجود قبري القديسة بربارة وخادمتها يوليانا في بلدة كرمليس في الشمال الشرقي من مدينة الموصل. لتتوالى بعد هذا المهاد التاريخي وقائع واحداث الرواية(1929-1987م). الاستثمار في المدونة التاريخية يحتاج الى حنكة راوٍ يجعلها كأطار لمحور احداث روايته وهذا ما فعله نزار عبد الستار دون الايغال في مرامي ومقتضيات التاريخ..بل عدها كبؤرة تؤرخ لبلدة نائية يسكنها المسيحيون بعاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم وبساطة الطبيعة وبدائية الحياة الفلاحية في سهل نينوى.
من هي «يوليانا»؟
العنوان عتبة النص الاولى، سلطة على المتلقي له وظائف ديناميكية في التحديد والتسمية والاشهار والاغراء وتكثيف المعنى، يشكل علامة تحتوي الدال والمدلول في آن. في كتاب « الاطراس» يذكر جيرار جينيت:» ان العنوان هو نص موازي وهو عبارة عن ملحقات نصية وعتبات نطؤها قبل ولوج اي فضاء داخلي كالعتبة بالنسبة الى الباب. او كما يقول المثل المغربي: ( اخبار الدار على باب الدار).
يوليانا امرأة آمنت بالسيد المسيح (ع) ابان الوثنية الرومانية التي قطعت رأسها لتصبح فيما بعد قديسة ذات كرامات عدة. لا ينقطع الانسان عن ماضيه وتراثه الديني لينتقل بنا نزار عبد الستار عبر آلية القطع السينمائي الى القرن العشرين وولادة «ججو» في العام 1929م لعائلة معاقة جسديا ونفسياً تدّعي نسبها الى القديس « مار ادي الرسول» وبسبب قباحته يعيش ججو في الكنيسة ويصل الى اعلى مراحل الايمان الكهنوتي الا ان الكنيسة لاتمنحه لقب شماس بسبب عاهته..وهنا يبدأ القهر الايماني لججو المؤمن بالخير والسلام والتسامح..حبيبته تتزوج السفير الفرنسي وهو يزداد تعلقاً بالقديسة يوليانا وهو يطبع على رخامة قبرها كل يوم قبلة عاطفية خلاصية..يوظف نزار عبد الستار الكرامات والمعجزات بمصاديق الحب والسلام والصدق والاخاء وهي مفاهيم انسانية ما ان يمتلكها الانسان حتى يتماهى مع معشوقه وهو في القبر..السمو للروح ولا شيء يعدله في الحياة.. ليس الايمان مسوحا وقداَّسا وصولجانات ولا صكوك غفران..الحب هو دين الانسانية..بعد ان رحل ججو عن الحياة يأخذ دوره ابنه حنَّا بذات الاهداف لكن بظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة..بعد حياة حافلة بالالام والمآسي والمعاناة يصبح حنَّا ذو شفاعات بعد ان ينصهر الايمان ووحدة الوجود في ذاته النقية والصافية كصفاء الشمس. رسالة الى كرمليس..الكلام الاخير لحنَّا لم تكن رسالة بل خطاب في الاخلاق والانسانية والسياسة والاجتماع والدين..يقول حنا في رسالته وهو يخاطب رجال الدين في الكنيسة الذين اتوا لاسترداد كرامات القديسة يوليانا من بيته:( أنتم هنا لأن بإمكان ثيابكم المقدسة الناعمة ان تتكلم، وترفع الاكمام معترضة. صليبكم الجميل تحملونه ذهبا وفضة، وانا احمله بالمسامير والالام. تريدون احلال الظلام في بيت انسان من اجل اشعال الشموع في بيت الله.) حنَّا يفضح زيف الذين يدّعون الايمان بكلمات ما ابلغها واشد وقعها في الذات الانسانية..لا تجارة مع الرب..الله محبة ورحمة وسلام ولا يصل الى اليقين الا من اوتي قلباً سليما معافى من ادران النفس والهوى والحياة الزائلة.( انتم تعلمون ظاهري لكنكم تجهلون قلبي..لقد قلت لله ورأسي على الوسادة، لن اكون منتقماً ولاعناً قدري، سأعطي الناس فرصاً جديدة ليتقربوا اليك..قلت لن اغضب ولن ازعل.قلت له سأصنع الخير بعاهتي وحبي لك)..خطاب في الانسانية والمثل والقيم العليا..من يعبد الله لاجل تحقيق مآرب دنيوية فذلك لا يعبد الرب العظيم خالق الاكوان والخلائق (ترون ان المعذبين على الارض يجدون دائماً لمسة مواساة، انتم يامن ترتدون مسوح حب الرب، لمستكم غير شافية لأن طمعكم فيها. ايها الطامعون في الرب، لن يكون في مقدوركم صنع معجزة ما لأنكم تعملون لانفسكم وتقودون الحياة بخوفكم، وتريدون لدمكم ان يكون طاهراً. أنتم تزرعون لبطونكم، وتحصدون لجيوبكم) ثم يختم حنَّا كلامه بـ ( العالم رحمة، والرحمة رزق الحزين)…هكذا اقام نزار عبد الستار مدونته التاريخية الجمالية السردية..في توأمة ابداعية بين ماضٍ سحيق وانسان معاصر ضمن حياة واحدة تحمل تضاداتها في الخير والشر ..الوجود والعدم..الجمال والقبح..،والنصر عندئذ للقيم الحضارية والإنسانية النبيلة.هذا ما ظهر من رأس جبل الجليد الغاطس في مياه رواية «يوليانا» للمبدع نزار عبد الستار.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة