على الصفحات الداخلية لجريدة «الصباح الجديد»يطالع القراء كتاباً مسلسلا مهما يمكن عدّه وثيقة لا تدحض عن موبقات حكم صدام حسين وبخاصة تلك التي ارتكبت بحق شخصيات كانت قد انخرطت في الحركة السياسية لحزب البعث قبل ان يقفز صدام حسين الى قاطرة القيادة واعدام واغتيال العشرات من القادة، وكان غالبيتهم اقدم منه في السيرة الحزبية واكثر اهلية للقيادة، لكنهم ربما لم يتخذوا مسلك المؤامرة والغدر ليسبقوه الى ذلك الموقع.
مذكرات فخري قدوري، وزير الاقتصاد العراقي الاسبق «هكذا عرفت البكر وصدام حسين ـ رحلة 35 عاما في حزب البعث» لا تثير أسئلة وفيرة بصدد السنوات الخمس والثلاثين التي قضاها الكاتب في صفوف حزب البعث، لكنها، في الواقع، تجيب عن أسئلة مفترضة أطلقتها الحصيلة التاريخية لصعود حزب صدام وسقوطه، بعد انتصاره على الجميع بمن فيهم رفاقه الأوائل الذين سبقوه الى عضوية الحزب. في هذا الكتاب، يزيح الكاتب الستار عن منطقة الرعب وانعدام الوزن التي كان يعيش فيها مسؤولون كبار تلاحقهم «فراسة» صدام حسين الأمنية الى مخادعهم.
بعد قراءة الصفحات الأولى من الكتاب سنعرف ان استنتاج حنا بطاطو بصدد بدايات تأسيس حزب البعث في مؤلفه الموسوعي عن العراق (الكتاب الثالث) ما يزال صحيحا حتى الآن، وربما ترسخ في آخر شهادة مسجلة باسم الدكتور قدوري عن تلك البدايات.
المفارقة الأولى تتمثل في أن بطاطو لم يشر الى دور مميز لطالب كلية التجارة فخري قدوري في الخلية الأولى لتنظيم البعث التي شكلها السوري فايز إسماعيل في بغداد في مطلع عام 1950، فيما ذكر قدوري ان القيادة في سوريا «عهدت اليّ مهمة تسيير أمور الحزب في القطر العراقي (كأمين سر التنظيم)، وكان ذلك عام 1952، وكنت ما زلت حينها طالبا في كلية التجارة والاقتصاد» وذلك بعد رحيل فايز اسماعيل من العراق». لكن بطاطو يذكر أن إسماعيل سلم القيادة الى عبد الرحمن الضامن (طالب حقوق) وفي عام 1951 تسلم القيادة فؤاد الركابي، وبعد نحو عام اعترفت القيادة السورية للحزب بالتنظيم العراقي كفرع مؤسس، لكن، ثمة سطور في استطرادات كاتب المذكرات قد تلقي ضوءا مفيدا على الموضوع بقوله «فمنذ عام 1952 ظهرت بوادر تكتلات داخل القيادة، ومنذ عام 1954 بدأت تنظيمات الحزب، وخاصة الأوكار الطباعية منها، تتعرض الى الكشف من قبل أجهزة الأمن، ما أوجد قلقا لدى الأعضاء».
على انه يمكن القول إن فخري قدوري، شارك بفعالية في الأنشطة المبكرة للطلاب البعثيين، معبراً عن ذلك في بيان باسم «الشباب العربي» وقعه مع وصفي الغانم وشفيق الكمالي وعبد الله السامرائي وآخرين ممن أسهموا في تأسيس تنظيمات حزب البعث في العراق ونشرته صحيفة الجبهة الشعبية في 17 فبراير (شباط) 1952، لكن انصرافه الى التحصيل العلمي وتعيينه معيدا في كلية التجارة والاقتصاد، وسفره بعد ذلك للدراسة في الولايات المتحدة حتى عام 1958 لنيل شهادة الماجستير، ثم سفره الى المانيا للحصول على الدكتوراه (1964 ـ 1968) فوّت عليه ـ كما يبدو ـ فرصة الصعود الى المراكز القيادية الميدانية، فيما أهلته تلك الدراسة والوظائف التي احتلها في مجال التجارة والتخطيط، بعد عودته الى العراق، ليكون اقرب الى نخب البيروقراطيين منه الى النخب الحزبية.
تمضي مذكرات فخري قدوري الموزعة على 480 صفحة وثمانية عشر فصلا لتروي فجيعة عضو حزب البعث، العقائدي، وصاحب التاريخ الحزبي العريق، والخبير في التخطيط والتجارة حين يجد نفسه موضع شكوك وطعون ومزاحمة، بل يجد شريكه في «رحلة النضال الطويل» ابن عمه وزوج شقيقته الشاعر والتشكيلي ورئيس اتحاد الأدباء العرب شفيق الكمالي وراء القضبان بتهمة يعرف أنها ملفقة من قبل صدام حسين.
عبدالمنعم الأعسم
أدعوكم لقراءة هذا الكتاب
التعليقات مغلقة