علي محمود خضير يكتب قصيدة المشهد..

يدرك الشاعر علي محمود خضير أنّ لعبة الشعر مغامرة، وأنّ استغراقه فيها يعني اصراره على مواجهة شروطها عبر اللغة، إذ يتكئ على فضاء من الاستعارات التي تصنع المشهد الشعري، مثلما يسعى- عبر شرطها الدلالي- الى تلمّس ما يتخفى من التفاصيل، فهو يهجس بها عبر رؤية غير حيادية، ينتخب التقاطاتها، زوايا النظر التي تخصّه، حتى تبدو القصائد وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناه المنطوية، القلقة، ولحدوسه المشغولة بالمراقبة، والبحث عن المُضمر والغائب وغير الآمن في المكان واللغة..
في كتابه الشعري الجديد(سليل الغيمة) الصادر عن منشورات باصورا/ البصرة يواصل الشاعر هذه اللعبة/ المناورة، يتقصى من خلالها سرائر العالم، المكان، السيرة، إذ تأخذه بواعث الكتابة الى التأمل والمراقبة والحذر، فبقدر مايكتب علي محمود خضير نصه الشخصي، النافر عن النمط، والخالي من التهويمات، فإنه يقارب أيضا، وعبر مايشبه كتابة الخبرة فكرة القصيدة المشهدية، حيث تبدو الكتابة فيها وكأنها حكايات مسكونة بتمثلات وجودية، يحضر فيها الشاعر بوصفه الباحث عن المعنى، والمشغول بشعرنة التفاصيل، والإيهام بإحالة العالم/ الوجود الى ماتحتمله اللغة، بوصفها الرؤيا المتاحة، والوحيدة للعالم، إزاء ما يعيشه من غياب أو احتمال للحضور خارجها.
الكرسي الفارغ احتمال
والمحبة- سرَّ المحبين- احتمال
والمساء احتمال فسيح
لن أحزن الساعة،
سأتذكّر
أنْ لاشيءَ أملكه في الحقيقة
غير هذي الملابس
والكتب
والخطاطات..
عتبة العنوان( سليل الغيمة) هي شفرة مركزية للكتاب الشعري، فهي تُحيل الى هاجس التعالي، ليس للدلالة الشعورية المباشرة، بل الى ما تفترضه (الغيمة) من استعارة تستدعي سيمياء الري، والاشباع والعلو، والى ما يمكن أنْ يتوافر عليه الشاعر من طاقة تفترض فكرة المراقبة والاستدعاء، وجرأة في التعرّف على مايجري، فالتفاصيل في الحياة، وفي الحرب، وعند الخيبات لاتبدو إلّا بوصفها تمثلات لغوية، أو (مشاهد لغوية) وهو مايدرك خطورته الشاعر، حيث يلجأ الى مايُبرر ذلك، لتكون الجملة الإسمية، هي الأكثر تعبيرا عن الجملة المشهدية، ويجد في نثريتها مجالا مفتوحا لحرية الرؤيا والمراقبة، وبقدر ماتكون هذه الجملة مُشفّرة، لكنها موحية أيضا، وباعثة على التتبع، إذ تضعنا أمام لعبة باهرة في البحث عن(الاكتمال) حيث شغف الرؤيا، وهاجس المخادعة، ولعبة البحث عن المعنى..
مهارة الشاعر علي محمود خضير في صياغته الشعرية، ودأبه على الاختزال، والعناية بالتصوير، تعكس تحولا مهما في تجربته، وفي النظر الى الأشياء الرامزة التي يتشكل منها مشهده الشعري، فهو ليس معنيا بالغناء ولا حتى بالاستعارة الفائقة، قدر عنايته باليومي، والمعيش، والقلق الوجودي، وهذا مايُعطي لقصيدته خصوصية بين أقرانه(الشباب) فهي أكثر انحياز لتوصيف قصيدة المشهد) تلك، والتي تستدرج الشاعر لالتقاط المزيد من التفاصيل، واستحضار ماهو حسي أو حميم عبر ما يتبدى في المشهد من علاقات وصفية أو دلالية، أو حتى تأويلية…
قصيدة المشهد التي يكتبها علي محمود خضير تُحيلنا- من جانب آخر- الى المدينة، والى الحكاية التي تخصّ كائن المدينة، المهووس بالمراقبة، والخوف والبحث عن الملموس، والعياني، وبوصفه الشاهد الوحيد على مايتبدى من صور الحضور والفقد اللذين تصنعهما المدينة، بكل ما يصطخب بها من قلق وجودي، وما تهجس به من تحولات عميقة، وبكل ما ينعكس من خلالها على جسد الكتابة، وعلى ملامح الأشياء المُهددة بالمحو، وحتى على وجود الشاعر القلق، بوصفه الرائي والرافض والمنطوي، والذي لا يستعيد المدينة وذاكرتها وحكاياتها المُرّة، إلّا عبر لعبة اللغة في منظارها، وفي استعاراتها..
علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة