انمار رحمة الله
(شفيف) رجلٌ مُبتلى بلسانه، يعترف بهذا دائماً. بمناسبة أو من دونها، وكأنه يحذر كل شخص يصادفه، يروي قصصاً عن لسانه بداية بالقصة المشهورة التي يقول فيها، أنه حين كان طفلاً يخرج إلى السوق مع أبيه، و حين يريد أن يعبر الشارع يمسكه أبوه من لسانه، كي لا يفلت منه وتدهسه سيارة مسرعة.. يقول شفيف (إنه يخاف عليَّ من أن أتيه في السوق الكبير. فكلما سألت أبي عن سبب مسكه للساني، ولماذا لا يفعل كما يفعل الآباء مع ابنائهم، فهم يمسكون أطفالهم من أكفِّهم، يجيبني أبي أن لساني هو الشيء الأقوى في جسدي). في المنزل يتعلم شفيف على يد أمه القراءة والحساب والعلوم، لقد وضعت له سبورة صغيرة، وصارت امه تمسك بلسانه، تؤشر به على السبورة تارة، وتارة أخرى تستعين به على ضرب الذباب، ثم تلفه وتضعه في فم ابنها إن لم تكن محتاجة له. وحين يشتهي ملء فراغه يحكي لوالدته عن المدرسة، عن معلمه الذي يضربه على لسانه عقاباً إن أخطأ، وعن أصدقائه الذين يمسكون لسانه المتدلي، فيقع شفيف على الأرض فيضحكون..
بعد سنوات كَبُرَ شفيف و صار رجلاً، لكنه لم يستطع السيطرة على لسانه. مازال يذكر كيف سقطت فتاة على الأرض، سحقت لسانه حين كانت تمشي وراءه. لقد كان لسانه يسحل وهو لا يدري، فعثرت الفتاة على الأرض مع صيحة عالية، تجمهر الناس حول الفتاة ورفعوها، وظلوا يشتمون شفيف على فعلته، وامروه أن يضع لسانه في فمه حين يسير، كي لا تقع بنات الناس نتيجة التعثر به.. ومرة أخرى عَلِق لسانه بزرِّ سترة مديره، بعد أن دخل المدير إلى غرفة الموظفين، واجتمع بهم وألقى خطبة طويلة، غادر المدير ذو الكرش الكبير غرفة الموظفين، ساحلاً شفيف وراءه. وحين انتبه إلى لسان شفيف العالق بسترته، وبخه المدير وخصم من راتبه، ثم صدَّر به كتاب عقوبة تحت تهمة الاستهزاء بتوجيهات الإدارة..
الكثير من المشاكل مرت على شفيف. يشعر بالحزن والضعف حين لا يجيد السيطرة على لسانه. لهذا صار حذراً جداً من وقوع مشاكل إضافية. وشدد من مراقبته للسانه، في الجلوس والسير والحديث مع الأشخاص. في بعض الأحيان تقع مشاكل طفيفة، فيغضُّ النظر عنها ، كحافلة سحقت لسانه قبل شهر إثناء عبوره الشارع، و زميل اقفل الباب على لسانه في العمل، و قطٌّ عظَّ لسانه ليلاً حين كان يمشي على الرصيف…وغيرها من الحوادث التي اعتبرها شفيف حوادث جانبية، ولن تؤثر على حياته إن التزم الصمت وغض النظر. حتى حدثت الشيء الذي غير حياته…مثل كل مرة عند غروب الشمس، يخرج شفيف لممارسة المشي بعد قلة المارة. مفتشاً عن الطرقات الخالية من أقدام الناس، وعجلات السيارات، وبلاليع المياه الآسنة. وصل إلى نهر المدينة المسافر عبر أرضها. جلس هناك ومدَّ لسانه على وجه النهر، الشيء الوحيد الذي كان يريحه، هو أن النهر لا يمانع أن يغطس فيه ذلك اللسان، مستمتعاً شفيف ببرودة الماء وصفائه. لكن النهر في تلك اللحظة كان يحمل لشفيف مفاجأة، طفلة كانت تماطل الأمواج بحثاً عن منقذ ينقذها من الغرق. وقف شفيف مذهولاً، حاول الاستنجاد بالناس لكنه لم يعثر على أحد، وقد كانت اللحظات سريعة، فإما أن ينقذها وإما الانتظار وطلب النجدة، وإلى ذلك الحين ستكون الطفلة لقمة سهلة في فم النهر. لم يجد شفيف سوى لسانه، رمى به صوب الطفلة، فلم تفلح المحاولة الاولى، رمى به مجدداً فعلق بالطفلة و جرَّها على مهل. لقد كانت الأمواج قوية تصارعَ شفيفُ معها بكل قوته، وهو ينظر إلى الطفلة التي بدت فاقدة للوعي. ظل يسحب بهدوء حتى وصلت إلى الجرف، ثم انتشلها و وضعها جانباً وضغط على صدرها. تقيأت الطفلة ماء ملوثاً بالوحل، وظلت تنظر بعينين جامدتين بشكل مستقيم. سألها شفيف:
– من أنت..؟ أين أهلك؟
اخذت الطفلة شهيقاً قوياً ثم قالت:
– أنا.. بلا أهل
سألها شفيف:
– وكيف سقطت في النهر؟
ردت الطفلة وكان ردها مصحوباً بزخة دموع:
– لقد سقطت في النهر … أنا مصابة بالعمى…لم أنتبه وزلقت ساقي وسقطت
تأسف شفيف عليها ثم اخبرها أن لا تهتم، فهي الآن بمأمن حين نجت من الغرق. ثم تساءلت الطفلة:
– هل ستتركني..؟
صمت طويلاً وهو ينظر إلى وجهها، وإلى أشعة القمر التي فضحت ما به من بياض صاف. تخوّف شفيف من قرار مرافقتها له، فباغتته الطفلة قبل أن ينطق حرفاً:
– هل تأخذني معك ..؟أرجوك ساعدني
انهضها وصعدا إلى الشارع الطويل ذي الأضواء الساطعة. كان الشارع خالياً من البشر. اخبرها أنه موافق على صحبتها له. فرحت الطفلة وقالت وهي تمسح ما تبقى من دموع
– إذن لنذهب إلى المنزل
أراد شفيف مدَّ يده إليها لكي يرشدها إلى الطريق، لكنها سبقته وتلمَّست جانب جسده حتى وصلت إلى لسانه، ثم أمسكت بطرف اللسان بقوة وقالت(هيا بنا). لم يعترض شفيف على مسكها للسانه، بل ابتهج وسارا جنباً إلى جنب إلى المنزل.