حيدر عبدالله الشطري
لم يكن هناك اكثر غموضاً وغرابة في الطروحات الفكرية والفنية مثل ما اتسمت به عروض المسرح التي تنحى منحاً حداثوياً, وبذلك ابتعدت هذه الطروحات عن الثوابت والاحكام التي يمكن ان يبنى عليها نص مسرحي مألوف ومن ثم عرض مسرحي واضح.
وقد تباينت هذه العروض في مدى اقترابها وابتعادها عن كل ما من شأنه ان يقوم بكسر الثوابت والقوالب المسرحية المعروفة , وبذلك ايضاً اختلف مستوى التلقي ازاء هذه العروض الصادمة التي تجعل المتفرج امام مفاهيم مسرحية جديدة عليه ان يكون ايضاً مساهما في دعمها وتبينها وبالتالي تقديمها على خشبة المسرح والدفاع عنها باعتبارها طروحات عصرية وجديدة.
ولقد كان لهذا التمرد المسرحي ان جاز لي التعبير بوصفه كذلك مسرحيون عملوا عليه واجتهدوا كثيرا في التنظير له.
وما عرض مسرحية اخاديد التي قدمتها فرقة تربية بابل من تأليف واخراج الثائر ثائر هادي الا مصداقا لما تقدم, في محاولة له ولكادر المسرحية في الدخول الى عوالم تجريبية حداثوية لا تعتمد على اسس فنية مسرحية اعتادت التجارب المسرحية العراقية على تقديمها على مسارحها ولا سيما مسرح فرق التربية وخاصة في تجاربه السبع الماضية .
فبدءاً لم يرتكز النص في بنائه على اسس وقواعد درامية متنامية تنتقل بالحدث من فعل الى اخر وفق نظام درامي متصاعد يدفع بالعرض المسرحي للوصول تكريس ثيمته التي يسعها الى عرضها بصورة واضحة وجلية ان لم تقدم خاضعة الى مستويات تأويلية متعددة او بأساليب وطرق مسرحية اخرى.
فجاء النص وهو يتحدث عن فكرة رمزية كونية فلسفية بالغة المعنى وباذخة التشفير تتحدث عن دور الدود والحشرات التي تهاجم الاشياء بأسراب كبيرة وتحيلها الى رماد بعد ان تحفر لها اخاديد كبيرة وطويلة تحت الارض تحمي بها نفسها من محاولات سحقها من قبل الانسان باعتبارها تقوم بفعل تدميري له فهي تلتهم حتى التاريخ باعتباره ايضاً سطورا تؤرشف لسفر طويل من حياة الانسان .
وبذلك بني النص بطريقة كولاجية لعبارات رمزية تارة وهي تبين الحاجة للضوء الذي يكشف الاخاديد المخبوءة وشعرية تارة اخرى وهي تنذر بالخطر الكبير لهذه الحشرات , عبارات تتراقص بأساليب ادائية متنوعة تبعا لمدلولاتها الفكرية اجتهد المخرج كثيرا في بث رسائل العرض من خلالها وفي الكثير من هذه الطرق اعتمد الممثلون على ترجمتها لأشكال تعبيرية وصور حركية معبرة وان جنحت في بعض الحالات نحو الاستطالة ومحاولة مطها كما يحدث عند جر الخيط المطاطي الذي يرجع ليضرب صاحبه عند تركه .
عمل مخرج العرض على ان يغذي ممثليه وكادره الفني على تبني هكذا طروحات والاعتقاد بها ومحاولة التشكيك بحالات اليقين التي من الممكن ان تعمل عليها اي مجموعة مسرحية لا تبحث دائما عن التجديد والتحديث في الشكل والمضمون .
فكان الممثلون مستفَزين على خشبة المسرح وهم يلعبون لعبتهم الدرامية الشائكة قبل ان يصدروا لنا ذلك الاستفزاز الذي يكون المتلقي بحاجة اليه في العرض المسرحي فكان ادائهم انفعالياً حاداً صارخاً يؤكد الحالة النفسية المضطربة لشخصيات العرض وهي تبحث عن خلاصها من ذلك الخطر الداهم الذي يواجهها وبالتالي يعييها ويحد من حركتها بل ويشلها او يميتها.
وكان لمشهد هجوم الدود الذي تجسد بواسطة الخراطيم الا واحدا من تلك المشاهد التي رسمت صورة للعرض التحذيري والذي ارد مخرجه بأن يخيفنا من نزول اسراب الدود الى قاعة العرض , وليس ليعرض فقط ما تتعرض له شخصياته والتي كانت ردود فعلها من خلال ما جسده الممثلون بتميز واضح رافضة ذلك بشدة مستمدة قوتها واسباب مقاومتها من صوت يأتي من الخارج ربما هو صوت المخلص الذي تأخر وصوله الذي حان من ساعة بدء الدود بلعب دوره التدميري وليس من وقت معرفة وبيان ذلك من قبل الانسان .
من توافر كل ما تقدم نستطيع ان نقول اننا ازاء عرض يحاول ان يكون مغايراً في كل شيء. عرض يبدأ من اللا مكان وينتهي بالا زمان تتشظى طروحاته لتصيبنا جميعا بالخوف والهلع مما قد يصيبنا نحن المسالمين الذي نجلس في قاعة العرض لنصفق لمشهد يعرض خيباتنا وانكساراتنا بل وخساراتنا المتكررة التي لا يريد لها العرض ان تتكرر فالضوء بأيدينا عندما تتحول اصابعنا الى مصابيح انارة تكشف لنا اخاديد النهم التي اكلت لحمنا وجلودنا وقد تأكل عظامنا ايضاً فالدود الذي نعرف لا يأكل العظام اما دود ثائر هادي الذي كشفه بمصابيحه فهو يأكل العظام ايضاً.
لم يكن عرض اخاديد بحاجة الى ان يبين طرفي صراعه من البداية والتي بدأنا باكتشافه عبر مسيرة العرض مؤخرا ولا ادري ان كنا غافلين عن ذلك ام انهم ( اي مجموعة العرض ) ارادوا ان يسرفوا في عرض استكانتنا وضعفنا وعدم انتباهنا لهول ما قد يحدث من جراء فعل الدود الابعد اعلان البحث عن ملكة الدود والتي بالقضاء عليها سيقضي على الدود كله, الدود بمعناه الشمولي وليس دودة سليمان الذي ذكرها النص والتي عندما شاهدتْ سليمانَ وجنودَه يتقدّمون نحوها، فخافتْ على نفسها وعلى أخواتها النمل أن يحطِّمها ويدوسها جيش سليمان (دون قصد) فأسرعت خائفة نحو أخواتها من النمل، وقالت بصوت مرتجف ومتقطّع:
– أيها النمل أسرعوا وادخلوا في منازلكم… فإني رأيت سليمان وجنوده يتقدّمون نحونا، ونحن صغار الأجسام (ولن يشعروا بنا) فإذا لم تختبئوا فسوف يحطمكم سليمان وجنوده.
سمع سليمان عليه السلام ما دار من حديث بين النملة وأخواتها، وفهم ما قصدته النملة فتبسَّم ضاحكاً من قولها، ثم أمر جنوده بالمسير ببطء، حتى تدخل النمل ولا تصاب بأذى، ثم رفع يديه إلى السماء شاكراً الله تعالى على نعمه الكثيرة قائلاً:
– اللهم ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ بها عليّ، إذ علّمتني منطق الطير والحيوان، وأن أشكر نعمتك التي أنعمتها عليّ وعلى والديّ بالإسلام والإيمان بك، (وأن ترشدني إلى طريق الخير فأعمل به)، وأن تدخلني جنتك التي وعدْتَ بها عبادك الصالحين، إنّك سميع. بمعنى ان النمل الذي كان يعنيه القرآن الكريم هو ليس ذلك الذي يجب ان نحذره.
ولا نستطيع ايضا ان نغفل مكملات العرض المسرحي الاخرى من مؤثرات سمعية وبصرية والتي ساهمت مساهمة فاعلة في تأكيد اسلوب العرض الأنفلاتي من القواعد المسرحية السائدة فكان معينةً ومساندةً في تكريس ذلك والعمل عليه ما سوى الافراط في استخدام نثار الورق وحك سطح الفلين الذي ينثر ايضاً حبيباته والذي انهك الممثلين وصار عائقا عليهم واجهز على خشبة المسرح بالاحتشاد به وتحمل اعبائه ومخلفاته.
ومن نافلة القول لا يفوتنا ان نؤكد على روح الجماعة التي عمل بها حشد النشاط الفني في تربية بابل والذي يعرفه الكثير من المتابعين للمشهد المسرحي العراقي عموما وما لهذه الجماعة من تجارب مسرحية مهمة وواعدة واذ نبارك لهم عرضهم هذا الذي قد يكون مثالاً لعروض مسرحية ننظر اليها بشغف وهي تمور بالأفق بانتظار من يحررها من ربقة القيود المقيتة والمعطلة لمستقبل مسرحي واعد نعمل جميعنا للوصول اليه.