هنري ميلر
زميل في الفلسفة العلمية والسياسة العامة في جامعة هوفر
في ستينيات القرن العشرين، عندما تنبأ عالِم الأحياء بول إرليخ بمجاعة جماعية بسبب النمو السكاني السريع، كان مربي النباتات نورمان بورلوج يعكف على تطوير المحاصيل والأساليب الجديدة للزراعة والتي أصبحت في وقت لاحق الدعائم الأساسية للثورة الخضراء. ويرجع الفضل إلى هذه التطورات، جنبا إلى جنب مع إبداعات التكنولوجيا الزراعية، في منع أكثر من مليار وفاة بسبب المجاعة وتحسين تغذية مليارات أخرى من البشر الأحياء اليوم. ومع ذلك، يبدو أن بعض الناس متحمسون لإبطال هذه المكاسب.
بعيدا عن إنقاذ الأرواح، أنقذت الثورة الخضراء البيئة من الاستلاب والاستنزاف على نطاق هائل. وفقا لإحدى دراسات جامعة ستانفورد، ساعدت التكنولوجيا الزراعية الحديثة منذ عام 1961 في خفض الانبعاثات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي بنحو كبير، في حين أدت إلى زيادات كبيرة في غلة المحاصيل الصافية. كما ساعدت في إنقاذ ما يعادل ثلاث غابات مطيرة بحجم الأمازون ــ أو ضعف مساحة الولايات الأميركية الثماني والأربعين المتلاصقة ــ بمنع إزالة الأشجار وحراثة الأرض لتوسيع رقعة الأراضي الزراعية. ومن جانبها، ساعدت المحاصيل المعدلة وراثيا في الحد من استعمال المبيدات الحشرية الضارة بالبيئة بنحو 581 مليون كيلوجرام (1.28 مليار رطل)، أو نحو 18.5% تراكميا منذ عام 1996.
ومن المثير للدهشة أن العديد من أنصار حماية البيئة هم الأكثر ميلا إلى إدانة هذه التطورات بدلا من احتضانها، وقد روجوا إلى العودة إلى أساليب غير فعّالة ومنخفضة الإنتاجية. وضمن ما يسمى إيكولوجيا الزراعة التي يدافعون عنها سنجد «زراعة الفلاحين» البدائية، التي تعمل من خلال خفض غلة المحاصيل وإضعاف قدرتها على الصمود، على تقويض الأمن الغذائي وزيادة معدلات الجوع وسوء التغذية.
وفي الترويج لهذه الحماقة نشر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مؤخرا تقريرا أعدته المقرر الخاص المعنية بالحق في الحصول على الغذاء، هلال إلفر، التي دعت إلى إنشاء نظام عالمي لإيكولوجيا الزراعة، بما في ذلك معاهدة عالمية جديدة لتنظيم وتقليص استعمال المبيدات الحشرية والهندسة الوراثية، الذي عدته انتهاكا لحقوق الإنسان.
الواقع أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ــ الهيئة التي تضم مدافعين راسخي الإيمان عن حقوق الإنسان، مثل الصين وكوبا وقطر والمملكة العربية السعودية وفنزويلا ــ يُرضي نفسه عادة بتقريع إسرائيل. ولكن في عام 2000، وتحت إلحاح الحكومة الكوبية، أنشأ المجلس منصب المقرر الخاص للحق في الغذاء. وبما يتفق مع التركيبة السخيفة المنافية للعقل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، كان أو شاغل لهذا المنصب، عالِم الاجتماع السويسري جان زيجلر، هو المؤسِّس المشارك والحائز لجائزة معمر القذافي الدولية لحقوق الإنسان.
من جانبها، استشهدت إلفر، وفقا لتقرير يو إن واتش، بأعمال بحثية تزعم أن الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، كانت من تدبير حكومة الولايات المتحدة لتبرير حربها ضد المسلمين. ويعكس موقف إلفر من الغذاء العقلية نفسها المبتلاة بجنون الشك والعظمة. فهي تعارض «الإنتاج الغذائي الصناعي»، وتحرير التجارة، وتتعاون على نحو متكرر مع منظمة السلام الأخضر وغيرها من منظمات حماية البيئة المتطرفة.
والحق أن قسما كبيرا من تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي أعدته إلفر يردد بلا وعي التأملات والتصورات الضلالية للمنظمات غير الحكومية التي تمولها الصناعة العضوية. فهو يعد الإبداعات الزراعية مثل المبيدات الحشرية مسؤولة عن «زعزعة استقرار النظام الإيكولوجي» ويزعم أنها غير ضرورية لزيادة إنتاجية المحاصيل.
ربما يكون بوسعنا أن نعد كل هذا مجرد نشاط مضلل من قِبَل الأمم المتحدة. لكنه يشكل عنصرا واحدا فقط في إطار جهود أعرض اتساعا وأشد تأثيرا من جانب منظمات غير حكومية عالمية، جنبا إلى جنب مع حلفاء في الاتحاد الأوروبي، لتعزيز انموذج إيكولوجيا الزراعة، الذي يحظر مدخلات زراعية المهمة، بما في ذلك المبيدات الحشرية ونباتات المحاصيل المعدلة وراثيا. والآن يجري الترويج لهذه الأجندة من خلال شبكة هائلة الحجم من وكالات الأمم المتحدة وبرامجها، فضلا عن معاهدات واتفاقيات دولية، مثل الاتفاقية بشأن التنوع البيولوجي، ولجنة الدستور الغذائي، والهيئة الدولية لأبحاث السرطان.
من الصعب أن نبالغ في تقدير الأضرار المحتملة لهذه الجهود. تشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (التي لم تستسلم بنحو كامل حتى الآن للنشطاء الراديكاليين) إلى أن المزارعين، في غياب المبيدات الحشرية، سيخسرون نحو 80% من حصادهم لصالح الحشرات وأمراض النبات والأعشاب الضارة. (ولنتأمل هنا على سبيل المثال تأثير يرقة العث، التي دمرت محصول الذرة في غضون الثمانية عشر شهراً المنصرمة وحدها في قسم كبير من منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا). والدول النامية معرضة بنحو خاص لتسلط أجهزة تنظيمية راديكالية، لأن المساعدات الخارجية تكون مشروطة عادة بالالتزام بها، برغم أنها من الممكن أيضا أن تعيد تشكيل الزراعة في العالَم المتقدم، وخاصة في الاتحاد الأوروبي.
الواقع أن الملايين من المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة في العالَم النامي يحتاجون إلى حماية محاصيلهم. وعندما يفتقرون إلى القدرة على الحصول على مبيدات الأعشاب، على سبيل المثال، فإنهم يضطرون إلى إزالة الأعشاب الضارة يدويا. وهو عمل شاق وقاصم للظهر حرفيا: فلإزالة الحشائش من هكتار واحد من الأرض، يضطر المزارعون ــ من النساء والأطفال عادة ــ إلى السير لمسافة عشرة كيلومترات (6.2 ميل) في وضع الانحناء. وبمرور الوقت، يؤدي هذا إلى إصابات مؤلمة ودائمة في العمود الفقري. والواقع أن هذا هو السبب الذي جعل ولاية كاليفورنيا تحظر إزالة الأعشاب الضارة يدويا باستخدام العمال الزراعيين في عام 2004، وإن كان قرار الحظر استثنى المزارع العضوية، لأنها على وجه التحديد ترفض استعمال مبيدات الأعشاب.
إن حرمان الدول النامية من أساليب أكثر كفاءة واستدامة في الزراعة من شأنه أن يدفع بها دفعا إلى الفقر وينكر على شعوبها الحق في الأمن الغذائي. وهذا هو الانتهاك الحقيقي لحقوق الإنسان.
الحق في التكنولوجيا الزراعية
التعليقات مغلقة