«المشتركات» ليست صفقات.. هكذا يقول علم السياسة

كثيرًا ما تُعقد الصفقات السياسية بين لاعبين انهكهم عض الاصابع ولي الايدي وجس النبض واستعراض القوة وأعيتهم التهديدات والتهديدات المضادة، والمخاشنات والخسارات ومن بينها خسارات السمعة.. اقول كل ذلك، وغيره، عادة، مقدمات لأية «صفقة» يعدها اصحاب معادلات السياسة والصراع، وفي احد تعليقات كيسنجر على مفاوضات كامب ديفيد قال ان ربع قرن من شقاء الصراع بين العرب والاسرائيليين كان باديا على وجوه المتفاوضين من الجانبين ولم تكن الحماسات الاستعراضية لتخفي امارات الاعياء والخيبة من على وجوه الساسة الذين القوا السلاح وصافحوا بعضهم وهم يتناولون عقارا اسمه «لا غالب ولا مغلوب».
ولدينا، شيء من هذا يحدث، مع اختلاف طبيعة اللعبة وهوية اللاعبين، فان عقدا ونصف العقد من الصعود الوعر الى مركز القرار والحكم كان كافياً لاستبدال الادوات والشعارات والتحالفات مادام ان المطلوب بالنسبة للمتصارعين هو
ابقاء نظام المحاصصة في حشوة المرحلة وقد تتخذ هذه المحاصصة اسما مستعارا انيقا هو التوافق، وربما اسم «الاغلبية السياسية» برغم ان التوافق او الاغلبية السياسية –في علم السياسة- لا يعنيان بالضرورة عملية تقسيم المغانم، كما جرى عندنا، ويراد له ان يجري لاحقاً.
وعلى هذه الخلفية نتابع تجاذباً محموماً، فهناك من يُعدّ التوافق ضرورياً في مرحلة الانتقال التي يمر بها العراق لتجنيب البلاد المزيد من التمزق، وثمة من يراه خطيئة تتعارض مع مبدأ الديمقراطية، ومفرخة للمحاصصات، وبدعة من بدع العهد ما بعد سقوط الدكتاتورية.
واحسب ان مناقشة هذا الموضوع تفترض، اولا وقبل كل شي، تحصينه من التبسيط، وتقلّب المواقف، ومزايدات سوق الاعلام، كما تفترض، في المقام الثاني، الاعتراف بأن التوافق هو نقطة الوسط في الخيارات المتضاربة، وقديكون اتفاقاً يضم منسوباً متقارباً من المصالح والاهداف، يدرأ فيه المتصارعون خطر الانزلاق الى العنف في ما بينهم، او (حذار)انهم يضعون فيه الغاما لسينياريوهات حرب واقصاءات ضد جبهات اخرى.
التوافق، من جهة اخرى، ابن شرعي لعصر التحولات، والاستقطابات الجديدة (لاحظوا الاتصالات الاميركية الروسية) لكن المشكلة تتمثل في انه قد يصبح ابنا عاقا حين يُختزل هذا الوافق الى صفقات مشبوهة تهدف الى تكريس الدكتاتوريات والمظالم، وقد يخرج هنا من التعريف المدرسي للتوافق الى معنى آخر اقرب الى التآمر.
وبخلاف ذلك فانه لا مفر من التوافق على حلول وسط، متوازنة ومشرفة، بين الفئات والخيارات السياسية العراقية المختلفة وهي تقف عند منعطف تاريخي مفتوح على احتمالات كثيرة ومتضاربة، والبديل عنه يتمثل في مواجهات كارثية لن تعود بالخير على ايّ منها,
التوافق، طبعا، ليس مبدأ للمحاصصة. الاول عملية تقريب وتجسير لوجهات النظر والمطالب والمشاريع والشروطالمتباعدة والمتصارعة وفق قواعد سياسية تتسم بالحرص على نزع فتيل حريق قد يشب في اية لحظة وتجنيب البلاد المزيد من الانشقاقات والحروب، والثاني تقسيم للفرص والوزارات والمواقع والنفوذ والوظائف الحكومية وملازم الثروة والجاه على اساس طائفي وفئوي. الاول، ينطوي على تضحيات مبررة ببعض المصالح، والثاني يبرر التشبث، غير المبرر، بالامتيازات. الاول، يتقرب من معالجة حالات التهميش بالنسبة لمكونات او فئات وكفاءات، والثاني يكرس حالات التهميش لمكونات وجماعات وكفاءات.
اما شعار الاغلبية السياسية الذي يجري مناقشته (في اطار الدعاية الانتخابية حتى الآن) فلا يمكن ان يتحول ميكانيكياً الى مؤسسات وهياكل وانظمة من دون وجود العنصر البشري الذي استوعب احكام ومديات وتطبيقات هذا الخيار الذي يبدو سليما من الناحية النظرية وفي مقدمتها شرط التداول السلمي للسلطة والاستعداد لضبط المصالح الذاتية والفئوي بعيدًا عن الاستئثار والمزاحمة، وقبل كل شيء، النظر الى السلطة كتكليف معياره ما يتحقق في الواقع من خدمات ونجاحات في الوفاء بالوعود.
على ان مشروع حكومة الاغلبية السياسية كخيار يمكن ان يكون مقبولا كبديل عن حكم الجميع (المحاصصة) الذي انتهى الى صراع مفتوح وشرس ومدمّر وسلسلة تصدعات وحروب واعمدة دخان لكن المؤشرات لا تشجع على الثقة في ان رواد هذا المشروع سيحققون تفكيك منظومات المحاصصة فيما هم غارقون في بحبوحاتها ويديرون ماكناتها ومصالحها حتى صاروا دولة محاصصة داخل دولة محاصصة، والحال، ان المحلل الموضوعي لابد ان يرصد شبهة الدعاية الانتخابية المبكرة في ما يتابعه من ترويج لشعار حكومة الاغلبية البرلمانية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة