نعم.. سياسات «ترامب» أقل غموضاً

عادل عبد المهدي
وزير النفط السابق
العالم تحكمه المصالح المتضادة وصعود عوامل القوة وتسلل عوامل الضعف. فلا الرئيس الاميركي، ولا الرئيس الكوري الشمالي بمجنونين. فالجنون هو الصور والانطباعات التي يغرسها اعلام فريق ضد الاخر. وكقاعدة تقبل الاستثناء فان الحكام يستشيرون، ويدققون، ويخططون، ويتفكرون. وما يجعلهم ناجحين او فاشلين.. مهزومين او منتصرين هو استثمارهم لقوى كامنة حقيقية تنقلهم من الضعف الى القوة، او اخفاء ازماتهم وضعفهم بمقومات وهمية، تنقلهم من القوة الى الضعف. فسياسات «ترامب» تزداد وضوحاً. اذ تراجع، مثلاً، جزئياً او كلياً، في ملفات داخلية، كالرعاية الصحية، والمهاجرين، وتكاليف السور مع المكسيك تحت ضغوطات الواقع، فماذا عن السياسة الخارجية؟
يقول «جوش روجن Josh Rogin»، الصحفي الاميركي المعروف: «لا توجد سياسة خارجية اميركية قائمة على مبدأ، بل توجد محاولة لوضع هيكلية». يأخذ فريق «ترامب» شعاراته الانتخابية، من حالتها الخام ويقومون بصقلها بنموذج ليضع عليه «ترامب» ختمه النهائي. فيزور وزير الدفاع «ميتس» الدول الاوروبية في شباط، يليه «تيلرسون» وزير الخارجية، واخيراً نائب الرئيس «بنس».. فيعيدون انتقادات «ترامب» لاوروبا وتحملها اعباء حمايتها وحول محاربة الارهاب، لكن بلغة اكثر دبلوماسية، ويصلون لنقاط مشتركة.. والامر نفسه مع شرق اسيا والملف النووي الكوري. فيزور «ميتس» الاصدقاء والحلفاء في المنطقة في شباط، ثم يذهب تيلرسون في اذار، و»بنس» في نيسان. فالامر فيه امتداد لسياسات «الحزب الجمهوري» واعادة هيكلتها اكثر منه تغيراً لسياسات اميركا.
يبدو استنتاج «جوش» منطقياً. وسيرى من يستذكر التاريخ ان دبلوماسية التهديد كسلاح للحزب الجمهوري (بوش)، جاءت بعد دبلوماسية «الاحتواء» لعهد «كلنتون». وتأتي لغة التهديد لـ»ترامب»، بعد سياسة «اوباما» و»كيري» في «الاحتواء». لكن لا لغة «الاحتواء» تستثني القوة والعقوبات، ولا الاخيرة تستثني «الاحتواء» والحوار. فالضربة في «الشعيرات» مثلاً، هي خطوة محسوبة، تحسن من احترام الحلفاء والقوى الداخلية لـ»ترامب»، وشروط التسوية منظوراً اليها اسرائيلياً واميركياً.. وليست مجرد خطوة نحو الحرب الشاملة، والا لقبل «ترامب» ضغوطات التصعيد الاقليمية والاوروبية بعد الضربة. كذلك الامر في كوريا الشمالية، فالاسطول يتحرك والتهديدات تتصاعد، لكن العين والهدف يتجهان للصين وقدرتها في الضغط على «بيانغ يونغ»، فالتدخل العسكري سيكون اصعب بعد التفجير النووي السادس مما قبله.. والأمر لن يختلف فيما يخص روسيا او الخليج او ايران.. فاميركا «الجمهورية» او «الديمقراطية» متفقة بأن «اميركا اولاً»، ولكي يصح استمرار هذا المبدأ عالمياً، لابد لأي رئيس «ديمقراطي» او «جمهوري» تجاوز المحاور الثلاثة ادناه في الاقل، لكي يتسنى الكلام عن تغير جذري في السياسة الخارجية الاميركية:
1 – برغم قوة الولايات المتحدة وقدراتها لكنها لم تعد دولة عظمى تحكم العالم لا عبر نظام القوتين العظميين، ولا نظام القوة الاحادية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. فخلال ربع قرن استعادت روسيا الكثير من قوتها، وتصاعدت قوة الصين العملاقة.. وكذلك الكثير من الدول التي لن تسمح لاميركا الاستفراد بالعالم.
2 – احتلت الولايات المتحدة مكانتها كقوة عظمى كممولة للدول التي تعتمد عليها منظومتها في السيطرة على النظام العالمي. ويتطلب قلب المعادلة لتصبح المنظومة هي التي تمول اميركا، امتلاك المنظومة مقومات ذلك، وهي التي لم تتراجع مواقعها منذ الحربين العالميتين، من دول عظمى او غنية الى دول من الدرجة الثانية والثالثة، او دول مرهقة موازناتها، الا بسبب الاعباء والازمات التي عانت وتعاني منها.
3 – لم يعد مزاج الرأي العام الداخلي او العالمي هاضماً، كما كان لمنطق التهديد والحرب.. وان سياسات اللجوء للحوار والانكفاء الاميركية في العقود الاخيرة، لم تفرضها اهواء وعوامل ذاتية، بل جاءت بسبب التغيرات العالمية الاقتصادية والسياسية والعوامل المرتدة السلبية للحرب في فيتنام وافغانستان والعراق وغيرها.. وان العودة لتلك السياسات لن تقود لافضل من النتائج التي قادت اليها تلك السياسات.
«اميركا اولاً» شعار صحيح في اعادة تنظيم البيت الاميركي.. اما عالمياً، فلابد ان يضع في حسبانه ان كثير من البلدان، التي باتت مقتدرة، تقول ايضاً «بلدي اولاً».. ولا تقبل ان يكون الشعار الاميركي على حسابها، وستواجه اية هيكلة جديدة تسعى للاستفراد والحرب، كما واجهتها سابقاً.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة