مجموعة (بيت جني) مصداقا

الإفصاح السردي والتمثّل الافتراضي في القصة القصيرة
عبد علي حسن
(3-4)
ومكانياً فأنّ المكان الذي احتضن هذه الأحداث هو أمكنة معروفة وراكزة في الذاكرة الجمعية العراقية ، ( العراق ، حي أبو شجاع ) وهو الحي الذي تسكن فيه الشخصية ، شارع ( العراق ) ، محلات بيع الموسيقى ، حدائق ( أبو نؤاس) ، الكرادة ) فقد كانت البنية الزماكانية إفصاحا سردياً لمقاربة و محايثة الواقع العراقي الذي أسهم في انتهاك الشخصية العراقية نفسياً وجسدياً ، فقد تمثل الافتراض السردي في تخليق هذه الحالة النادرة الحدوث لتكون انعكاساً لما يدور في الشارع العراقي ومن ثم إدخالها في مختبر تحليلي غرائبي ليتوصل الى حل هو الآخر غرائبي وحسب نصيحة الطبيب المعالج الذي( جلب كيلو من مادة الطين الحرّي ، من باب الاحتياط ، كي ما تطمر أذنيها إن تعالت أصوات الانفجارات والمفخخات … النص ص 68)..
ولعله الحل الأمثل لتفادي تأثير الضوضاء والفوضى المستمرة على الحالة الصحية للشخصية المركزية التي وجدت في طمر أذنيها بالطين الحري حلاً لمشكلة الفوضى والضوضاء ، ولكن النص يشير في نهايته الى مشكلة أخرى قد تواجهها وهي رؤية الجثث المنتشرة بفضل الانفجارات وما سببته من مشكلة جديدة ستقع لبصرها ، ( لم تكن تظن إن ثمة إشكالا صحياً آخر سينتابها في الأيام القادمة ، منظر الجثث المقطعة التي تخلفها الانفجاريات … تحاشته بإغماض العينين ، اتقاء ما يحدث من أطناب الفوضى … النص ص 68) وبذلك فقد أحكم النص الخراب الصحي الشامل للشخصية المركزية الممثلة للشخصية العراقية بطمر الأذن وإغماض للعينين ، فضلاً عن الأثر النفسي الذي سيصل إليه المتلقي جراء هذين الفعلين ( الطمر ، والإغماض) لتبقى الشخصية العراقية بمنأى وعلى بعد من الانتهاكات الحاصلة ، ولتظل هذه الشخصية هي الأخرى بعيدة عن فعل التأثير في الحياة هذه في الحفاظ على سلامتها النفسية والجسدية لقد تمكن نص ( إذن من طين ) من تحقيق فعله الاتصالي مع المتلقي والتواصل الى تخليق النص الافتراضي الذي سعى الى تكريسه عبر استثمار الفصاحة السردية المحايثة للواقع ومعطياته وليكون الخلفية التي انطلق منها النص وأسس عليها بنيته الدلالية المستنتجة من التمثيل الافتراضي للسرد الذي اتسم بالقرائنية والتخييل العالي من خلال لغة السرد المتمكنة من الاقتراب من الواقع وفي ذات الوقت محققة غرائبية الافتراض وفق أسلوب التبعيد والمتخيل …
وتمثل الشخصية المركزية في قصة( بيت جني) – التي حملت المجموعة القصصية عنوانا لها النموذج الواضح لما تتعرض له المرأة من استغلال وانتهاك لوجودها الإنساني والأخلاقي أثناء مراجعتها للدوائر الرسمية ووقوعها تحت طائلة الفساد الإداري المستشري في مؤسسات الدولة واستغلالها جسدياً والإطاحة بالثابت من المنظومة الأخلاقية التي تحرص على بقائها نقية دون مساس ، إلا أن الفاقة والحاجة والفقر تشكل عوامل ضغط نفسي كبير يدفعها في أحايين كثيرة للقبول بالخسارات الأخلاقية أو المراوغة والمساومة من اجل انجاز معاملة أو الحصول على مكسب معين يقيها غائلة الجوع والحرمان وبشكل خاص النساء الأرامل والمطلقات المشمولات برواتب الضمان الاجتماعي ويكشف نص (بيت جني) وسائل غير أخلاقية يستخدمها (سمسار) يتوسط لإنجاز المعاملات مقابل مبالغ مالية وتسرد المرأة كلية العلم كيفية التوصل الى هذا( السمسار ) ومحاولة إغوائه لانجاز معاملتها التي توسط لها في الشهر الماضي أحد الجيران إلا ان الازدحام الحاصل أمام بوابة دائرة الرعاية الاجتماعية هذا الشهر له أسبابه ( الشهر الماضي ساعدني جار لي في انجاز المعاملة ، لكنني في أواخر هذا الشهر فوجئت بطول الطابور عندما سألت النسوة عن السبب قلن فتوى قد صدرت من رجل ملتح أجاز فيها الزواج من القاصرات ، مما أتاح فرصة لأفراد العسكر والشرطة تبديل زوجاتهم باليافعات النص ص 70) وتنجح الساردة في نصب الفخ لهذا الشاب السمسار الذي يذهب بها الى بيت خلف سوق الشورجة ( لقد اشترى بأموال المطلقات والسمسرة بيتاً من البلدية بثمن بخس ، وفي نيته جعله ماخوراً لنزواته مع فتيات الرعاية الاجتماعية …. النص ص71) ويثبت النص واقعة تعرض سوق ( الشورجة ) الى حريق شامل أتى على معظم محلاته قبل أربعة قرون أثر رمي مشعل ناري في السوق من شاب مخمور ، وبعد أن خمدت النيران وتعرض السوق برمته الى الانهيار، نهض خلفه تماماً قصر حسبه البعض ان قيامه بفعل جنّي / وهو القصر الذي اشتراه فيما بعد سمسار الرعاية الاجتماعية ليحوله الى بيت للدعارة والعهر .. وهو ما اكتشفته المرأة الساردة أثناء تجولها في القصر وعثورها على وثائق قديمة تشير الى تاريخية هذا للقصر واستخدامه مكان للعهر والاستمتاع ، الذي مارسه حتى الخلفاء العباسيين إذ أن الساردة قد (شاهدت على جدرانه يرصف تأريخ العهر ، الذي رافق المدينة ، وثمة رسومات وكتابات تدون التاريخ الطويل لعمل المومسات اللائي عشن فيه كذلك ثمة امرأة كتبت بخط كوفي جلي ، دون استعمال للنقاط فوق الحروف ، إن الخليفة المعتصم قد ضاجعها قبل صلاة الظهر وكان في نيته إعلان الجهاد على التتار الذين يطوقون بغداد آنذاك النص ص72) ومن الممكن عد هذه الرسومات والكتابات وثيقة توسل بها القاص لبناء نصه الافتراضي الذي يبدأ من انتقال المرأة الساردة الى القصر وبقائها أسبوعا ريثما ينجز سمسار الرعاية الاجتماعية معاملتها ، إذ أن فصاحة السرد قد كشفت في الجزء الأول عن تفاصيل الواقع ومعطياته وإنشاء خط اتصال مع المتلقي ليتعالق مع النص نفسياً واجتماعياً من خلال تأكيد بعض التفاصيل الراكزة في ذاكرته ( مؤسسة الرعاية الاجتماعية ،سوق الشورجة ، حي الوزيرية ، ما يحصل من فساد في الدوائر الرسمية وتحديداً تلك التي تشهد حضوراً نسوياً لافتاً ( نهر دجلة ، شارع الخلفاء ) فكل هذه المسميات والوقائع التي تجد لها حضوراً في البنية الاجتماعية كان بمثابة الخلفية أو الوثيقة التي سيبني القاص عليها نصه الثاني/ الافتراضي / المتخيل والذي يشكل النص غير المرئي والمستبطن للظاهرة الاجتماعية العيانية التي كرسها النص في جزئه الأول للنص .. واعتبارا من اكتشاف المرأة الساردة للكتابات والرسوم يبدأ النص في بناء الجزء الافتراضي التخيلي الذي يعد تبعيداً وخروجاً عن النسق الافصاحي الذي اعتمدهُ القاص كخلفية ما حايثت المعطى الواقعي المتمثل بالفساد الإداري وما تتعرض له المرأة العراقية من انتهاكات أخلاقية عند مراجعتها الدوائر الرسمية ليؤسس الجزء الثاني المختلف عن الجزء الأول وإمكانية عدّهُ النص الماورائي للظواهر الاجتماعية التي جاء عليها الجزء الأول الافصاحي فالقاص يبقي على خيوط واهنة تربط بين الجزأين من خلال تكريس وجود القصر الافتراضي في ذهن المتلقي بين أنقاض المعطى الواقعي ليستمر في وضع المتلقي في دائرة اهتمام النص و ثيمته ، فالساردة تكتشف وجود وثائق أخرى متواترة زمنياً ( بعض الكتب قديمة جداً مكتوبة بخط يدوي مائل ، أنا توقعت الكاتب أعسراً…. ما كتب بالآلة الكاتبة وضع في مجلدات سميكة ، وبألوان مختلفة لكنها لا تنم عن تطور أساليب الطباعة الحديثة ، النص ص 73) وإزاء هذا الكم من الوثائق والكتب والرسومات التي وجدتها الساردة في أروقة القصر ، تقترح على السمسار تحويل القصر الـ ( متحف للعهر ) وتحاول القناعة بقبول الاقتراح …( زواج القاصرات جعل العهر يطفو على السطح ، فما بلك ..؟ النص ص 75) ويذهب القاص بعيداً في تخيله ليطرح الرؤيا الداخلية لما تم الإفصاح عنه في الجزء الأول من النص إذ تشير الساردة في نهاية النص (كنت مقتنعة بموافقته وإلا لكان قد خسر عضوه الداخلي ، فهو أبداً لن يتوقع أن الفتاة التي التقطها من طابور الانتظار ، في فرجها أسنان تقضم كل قضيب يدخل ، لقد نمت الأسنان منذ … هجرها بعلها وتزوج من قاصر النص ص 75 ).
لقد لجأ القاص الى هذا البناء الافتراضي ليؤكد ويكرس بنية الحقد ورغبة السارد في الكشف عن العهر وتاريخه اللا أخلاقي في بغداد وعبر العصور … ثم ليكشف حقد المرأة للرجال الذين لا يفكرون إلا في المتعة السريعة التي تجد في الوجاهة الرسمية سبيلاً الى استغلالها من اجل تحقيق المأرب الجنسي ، وكذلك كشفها عن الأثر الاجتماعي لظاهرة التزويج من القاصرات التي شاعت مؤخراً كظاهرة اجتماعية معاصرة. ويستثمر القاص حميد الربيعي مرور المتلقي على قصص المجموعة السابقة للقصة الأخيرة ( في البدء) وتكون وجهة نظر إزاءها .، فيجعل الشخصيات المركزية للقصص الاثني عشر السابقة – واغلبهن من النساء – شخصيات قصته الأخيرة – أما منظم سفرة هؤلاء النسوة الى (المنابع الأولى ) فهو القاص ذاته، وباستخدام ضمير الشخص الثالث (هو) إذ أن الخراب الداخلي للشخصيات والمعاناة من مرارة الواقع العراقي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة