جهاد مجيد في «أزمنة الدم»..
ناجح المعموري
رواية تهيكلت على تاريخ مفترض ، كعادة جهاد مجيد ، يقترح مرحلة تاريخية ويحدد الكثيرون عناصرها الضرورية حتى توحي بكونها حقيقية تاريخية ، مكونة من مجموعة وقائع واحداث مرتبطة بالمملكة . مع رسم دقيق لما تحتاجه المرحلة من مكملات جوهرية لها علاقة مباشرة باماكن مقدسة مثل المعبد وبيت الكهنة ، ومكان الملك وزوجاته ، وغرفته الخاصة . هكذا هو في روايته الجديدة أزمنة الدم التي أعاد ترسيم أزمنة حاضرة بتخيلات الماضي وتواريخه . ويبدو لي هنا القاص جهاد مجيد أكثر أثارة للدهشة والغرابة وقوة مخياله في التقاط زاوية سرده لهذه الرواية . لقد غادرت آلية دومة الجندل التي كان فيها مستعيداً الماضي ومروياته من بطون الكتب أو مستمتعاً لبعض وقائعه من رواة . هنا ذهب ابعد من ذلك ، وأعمق ، وأضفى على شخصيته الرواية مشاركة وحضوراً ، وألغى كلياً الزمن الفاصل بين لحظة التعايش المتخيل وزمن الاستعادة لزمن الملك آدبون ناشيبال .والمثير هو البعد الزمني الذي منح السرد أسطورية وغرائبية لم تكن جديدة على تجربة القاص جهاد مجيد ، بل هي تمثل امتداداً واضحاً لروايته المهمة « دومة الجندل وتكمن الأسطورية والغرائبية في هذه الرواية في محاور عديدة منها وعلى سبيل المثال العقائد الدينية والإلية التي يتم فيها اختيار قرابينه من الفتيات الجميلات ، وكذلك طقوس زواج الملك ، والاحتفالات ، ودور المعبد في توصيف التقاليد والشعائر الدينية التي تجري في المملكة ، ولعل أكثر ما يثير في أسطوريات رواية « أزمنة الدم « هو عيد الإيكال الذي تبدأ احتفالاته باليوم الرابع عشر من ايكال وهو العيد الوطني الكبير الخاص يميز وبوناميا . واشتغل القاص جهاد مجيد ببراعة على ما هو بحاجة إليه ، حتى يمنح روايته تغريباً وأسطورة ويجعل التاريخ بين يديه وتطرف أكثر في ذلك عندما قال :
« ـ دلت الحفريات على وجود ثلاثة أو أربعة شواطيء جيولوجية لانهار ميزوبوتاميا لم يسمعوني
ـ حدد الاثاريون ساحل الخليج بالخط المار بين هيت وسامراء وبلد … قبل نصف مليون سنة ( مرة أخرى أي عين رأت ذلك ) / ص12// يدخل الصوت الحاضر بقوة منطقه وعقله ليعلن شكوكا حول ما تم التعارف عليه وهي ليست أكثر من استعادة لموروثات ومرويات شعبية تثير أسئلة حول التاريخ العميق .
الراوي اثاري له خبرة ومعرفة بالتفاصيل التاريخية التي جعلها منفذاً لمهارته في توظيفها خصيصاً لازمنة الدم المعاصرة ، التي لم تكن غريبة أو مفاجأة ، بل هي امتداد لتاريخ من الدم وموروثاً لما كان متداولاً قبل زمن عميق ، وكأن جهاد ذاهب الى ما يريده حتى يقوله من أن ميزويزتاميا محكومة بالدم وحضور مدافن الصبايا المستمرة كضحايا وسط مطامير « ادبون ناشيبال « التي أعاد قصها « ايسول « واتسع في كشف المفاسد وأيضا الإصلاح.
ويزداد جهاد مجيد ولعاً في علاقته مع التاريخ المتخيل الذي برع تماماً في توفير سرديات خاصة بإحداث ووقائع تمنحه صفة اقرب الى الحقيقة ، حتى تستولد طاقة وقوة لشحن السرد بمستلزمات بنائية ، تجعله مجموعة من الحقائق التي حصلت بمرحلة ما من تاريخ عميق . استعادة جهاد مجيد وابتكر له مكملات التخييل من أسماء كهنة وكتبة في مقدمتهم « زكتون اليمار «.
غيب الكهنة كثيراً من وقائع الدم ، لكن الذاكرة حية ومتحركة ترث باستمرار مرويات الماقبل وهذا هو الحيوي بالإلية الشفاهية التي لا تتعطل ولا تتوقف ، بل تظل متحركة جيلاً بعد جيل « ـ أعرفت مصير ادبون ناشيبال يا ايسول « صدقني لا يهمني مصيره ، بل مصير ميزوبوتاميا ينقطع هسيس المطر ، أتطلع عبر النافذة متعلقاً بالغيم كان يتبدد ويتحرك سريعاً ماسحاً صفحة بدر يتوهج شيئاً فشيئاً ، هي الليلة الرابعة عشرة من إيكال ، عيد ميزوبوتاميا لم انس دعوته لحضور احتفالاتهم بهذه المناسبة الكبيرة .
ـ اعرف عنها الكثير الكثير
ـ ما عليك مما تعرف وتعال لتعرف ما لا تعرف .
ـ آثمة ما لا اعرف بعد كل الذي رأيت وسمعت وقرأت ؟
ـ ما تعرفه هو ما أرادك أن تعرفه « ادبون ناشيبال « عبر كتبته وفي مقدمتهم زكنون اليمار « أماما لا تعرف ، فلم يدونه زكتون بل لم يفه به ، واتلف كل ما يمكن أن يستدل به عليه / جهاد مجيد / أزمنة الدم / دار الرافدين / بيروت كندا / 2016/ ص22//
تضمنت سرديات الراوي ، صوت التاريخ والحضارة وما هو ضرورة بنائية الراوية التي اشتغل عليها جهاد مجيد ، الذي أضفى ما هو وسيلة أقناع للمتلقي ، من أن القاص توفر على أرشيف خاص بالذي اشتغل عليه ، لذا ذوب جهاد مجيد غياب الصلة بين الماضي والحاضر ، وجعل من الماضي موجوداً في تفاصيل السرد وتخيلات الراوي . ووظف جهاد بعض المسميات المألوفة لنا جميعاً والمعروفة في تاريخ الحضارة ، مثل المعبد ، الزواج المقدس الكهنة / الكتبة / المسلة الخاصة بـ « منشتوسو « انها مسلة الراوي المتخيل لها والتي توميء لمسلة نرام ـ سين المعروفة . هذا احد ابتكارات جهاد مجيد عندما يذهب نحو التاريخ ويجعله أطاراً وبؤرة بنائية ، وهو ـ جهاد ـ الذي يعيد الحاضر ويزج به ، يمتحن مهاراته للتموية على المتلقي .
ولهذه السمة حضور في السرد وبتكرره المستمر ، ينشغل المتلقي بالتداخل والتفارق بين الوقائع والأزمنة البعيدة جداً والمعاصرة ، والحاضرة بالذاكرة انه قاص مولع بالإيهامية مثلما صرح بذلك قبل فترة طويلة . ولديه خبرة بالإيهام ، حيث جعل من هذه الرواية أزمنة / وحقب اندثرت ، استعادها وأعطاها حياة من خلال استعادة الطقوس التي كانت والمسرحة الدينية مثلما في عيد إيكال الذي لا وجود له أصلا في التاريخ القديم.
يستمر جهاد مجيد بلعبية سردية تربك القارئ الذي سيعتقد من حضور تاريخي في السرد مع وجود صوت الحاضر الممثل له بالراوي الذي يعمل اثاريا في موقع مفترض ويوفر القاص ما يدعم لعبيته وايهاميته بالتحفظات التي يتخيلها الحوار بين الراوي وبين عداي الخليف . ومن السرديات التي جعلت الماضي حاضراً موجوداً وقائماً « لم لم يدخل لنشرب الشاي معاً ثم نبدأ رحلتنا اليومية في ابهاء قصر « ادبون ناشيبال « وقاعاته الخاصة والعامة ، وغرفة السرية ، ثم نشرب من خمر معبده العتيق / ص20//
التداخل بين الأزمنة وتشابك وقائع التاريخ وسردياته المتخيلة ، فمثلما معروف أن التاريخ متخيلات خاضعة للتأويل كالأدب كما قال هايدن وايت . هذا ولع جهاد المهيمن على. فضاء التنوعات المروية وقد حقق مهارة عالية في لعبته الايهامية ويضع القارئ أما ما يخلقه التداخل من ارتباكات موئقة واهتم أيضا بسرد خاضع للبينية المكونة من الماضي والحاضر ودائماً ما تثير تساؤلات القارئ « حين فتحت باب غرفتي لطمني هواء بارد ( لاتجه صوب المعبد ، جهة سير ايسول … الأرض موحلة ، قبل قليل كانت يابسة ، وساخنة بفعل أشعة الشمش الحامية ، خلع الزوار جاكيتاتهم وبلوزاتهم قبل انتصاف النهار … ها هي أولى سلالم المعبد ، وها أنا ذا وجهاً لوجه مع أيسول ، كان مقطباً ثم عاجلني بصوت عاتب : أنسيت الرابع عشر من ايكال ؟
ـ لا لم انسه … لم انسه مطلقاً
ـ جئتك مرتين ، فالفيتك تغط في النوم
ـ أخذتني غفوة … وها أنا أمامك / ص22//
ملاحظة اللحظة / الآن في هذا السرد المتداخل واضحة دائماً ما يلجأ اليها جهاد مجيد بتوظيفه للتاريخ باعتباره سرداً حتى يعطيه حضوراً وامتداداً باعتباره موروثاً ثقافياً ، كذلك يوهم المتلقي بأن وقعائعه معاصرة وقريبة جداً . وفي لعبته مع التاريخ ، يتجاور معه فعلاً ويطلع عليه عبر مصادره من اجل زيادة الإيهام وتفعيل خاصيته اللعبية عندما يكتب ونعرف بأنه استعان كثيراً من المصادر عندما كتب روايته المهمة « دومة الجندل « حتى ذهب الى أكثر من ذلك واستعان بالخطط ورسم الخريطة ووظفها علامة سيميائية عززت طاقة السرد في تحديد الوقائع والخطط . وفي روايته « أزمنة الدم « استثمر في هذه الرواية أكثر من مصدر / أشعار رافدبينة وسجلات ميزوبوتامية القديمة ج1. وهذه الإشارات الصريحة قصدية ، استدعتها حاجات البناء الفني من اجل تكريس الاستثمار التاريخي وتحويل وقائعه ، أو ما يحتاجه القاص الى سرديات ، تداخلت مع اللحظة الحاضرة وفي أحيان عديدة دفع بالآن الحاضر نحو متون التاريخ وأنتج مرويات ووقائع يقترب منها بقدر حاجته إليها ، من اجل أن يوهم ويشوش على المتلقي ويزداد لعبية .
لكنا لا نستطيع تجاهل حضور تمثيلات لاهم شخوص النظام السابق وهذا ما سنعمل على فحصه في دراسة اخرى .