تخفي الراوي في مناديل العنبر

مروة السراي

مناديل العنبر واحدة من قصص إيناس البدران في مجموعتها (الليلة الأولى بعد الألف) في طبعتها الأولى التي صدرت عام 2009, التي تبدو للقارئ بصيغة (رواية الشخصية) التي هيمنت فيها الشخصية الرئيسة على بؤرة السرد عبر راوٍ كلي العلم كما يتضح منذ الشروع بقراءة بداية القصة, إلا أن هذا الراوي يثير ريبة القارئ وشكوكه لعدة لوازم بدت فيه.
تبدأ مفارقة السرد منذ العبارة الأولى إذ يوهم الراوي بالدخول إلى عالم حالم بالرومانسية والمتعة الآنية والسعادة:»ـ عيناك جميلتان. الدهشة تعقد لسانها ويحتقن وجهها بحمرة الخجل، المدى يفتح ذراعيه باسما وهي تستقبل بكل جوارحها أولى كلمات الغزل تنثال عليها كعقود الآس والياسمين، وممن؟ من ديك العنبر، كما كان يحلو لهن تسميته فيما بينهن، في لحظة ودت لو تمتد لآخر العمر». ليدخل القارئ بعدها إلى عالم يعج بالأسى والألم واليأس الذي أخذ ينهش في النص حتى نهايته.
توقظ المسالك الجديدة، في تنبيه الوعي بالحياة، والشعور باللغة، خاصة إذا تجسدت في أدوات فنية مستحدثة، توقظ لدينا، بالمفاجأة المدهشة، والتحدي الواضح في فك مغاليقها، قدرتنا على الاستقبال وكفاءتنا في الفهم، بما تتيحه من لذة اكتشاف الجديد ومحاولة فضه .
هناك ظواهر لغوية تدفع القارئ للتركيز على الراوي بدلا من الشخصية الرئيسة ومن ذلك أنه ينقل الأحداث من وجهة نظرها ومن المفترض أن يعرف دواخل الشخصيات الأخرى ويطلعنا على أفكارهم بحيادية؛ لكن ذلك لم يحدث على امتداد النص، بل لم ينقل حديث أي منهم مع آخر، سوى الشخصية الرئيسة التي لم يعرف اسمها وإنما أفصح عنه بالضمير الغائب (هي) مع نفسها في حوار داخلي:»حين باحت لها نفسها بالحقيقة لأول مرة:
ـ أنت تحبينه…» .
ومع (أم مزهر) قارئة الفنجان لتكشف طالعها، التي كانت تشويها بنظراتها وهي تسألها بفضول: «منذ متى تهتمين بهذه الأمور؟ حسنا اشربي فنجانك .. واقلبيه، أجل هكذا» . ومع الرجل الذي كانت تهيم به لكنه لا يكترث لها عندما رأته يترك فتاة أخرى تحترق في أتون جحيمه :» لماذا تركتها ؟ أجاب بلا مبالاة:
ـــ لأنها لا تعني لي شيئا
ـــ إذن لماذا كنت…
قاطعها وعيناه تقدحان غضبا قائلا:
أصبحت تكثرين من الأسئلة»
والأصوات التي كانت تصدر هي التي تسمعها فقط فلم يذكر الراوي شخصا آخر يسمع صوتا غيره كأصوات المكائن وصوت المذياع وهمهمات البنات؛ ولو وضع ضمير المتكلم بدلا من الغائب فلن يتغير شيء بل سيكون مطابقا للشخصية الرئيسة ومستساغا دون أن يحدث خلل في المعنى .
نقلت الأحداث من وجهة نظر الشخصية الرئيسة بضمير الغائب الذي ينم عن أن الراوي عليم، ولولا هذه المفارقة لأمكن القول أن الراوي هنا مشارك بل مطابق. وليس هذا فحسب فقد ذكر شعور الشخصية الرئيسة التي أحست أن العجوز تشويها بنظراتها ولم يذكر نظرات العجوز إزاء بقية البنات اللاتي يقفن في الطابور.
ويمكن ملاحظة أن التشبيهات التي ساقها الراوي تتلاءم ونفسية الشخصية فلم يكن في بالها غير ما يمكن أن يطفئ نارا مستعرة كشلال أو طوفان يتناسب ونفسيتها المتعطشة والتواقة لمجرد نظرة من عينيه اللتين أخذتا مأخذا من قلبها البريء:» كان شلال حياة… طوفان من المشاعر يجتاحها» . حتى وصل بها أن رأسها أصبح كرة من نار.
لم يركز الراوي هنا على أي مشاعر غير مشاعر الأنثى الحساسة التي لا تتحمل الخدش وأنها رقيقة جدا حتى شبهها بالمناديل الورقية التي تحترق بسهولة:»تتأمل المناديل الكثيرة حولها، وكم هي رقيقة لدرجة العطب لأدنى سبب، مناديل من كل لون ونوع تهب كل شيء مقابل لا شيء لتنتهي في سلة المهملات» . فالرتابة والحزن والأسى التي هيمنت على النص هي مشاعر أنثوية بحتة تطابق وعيها، بل تتماها مع الشخصية الرئيسة. كما يمكن ملاحظة استعمال علامات الترقيم (..) التي تشير إلى مدة الصمت أو لحظة تفكير، غير أن المفترض أن السارد كلي العلم لا يحتاج إلى ذلك لأنه يمتلك المعرفة المطلقة.
لا يمكن إذن أن يصطلح على الراوي في هذه القصة بأنه عليم للأسباب التي ذكرت آنفا كما لا يسمح أيضا أن يطلق عليه مشاركا أو مطابقا لأنه سرد الأحداث بضمير الغائب، لكن التسمية الأقرب للصواب التي يجدر بالقارئ أن يطلقها على هذا النمط هي الراوي الملتبس.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة