حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية.
حتى ما قبل شهر مضى، لم يكن ليخطر على بال أحد، في الغرب، أن يُشبَّه رئيس أميركي بالقذافي، فالتهريج والهبل وجنون العظمة كانت، دائماً، صفات حصرية محجوزة لحكّام في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لم تعرف بلادهم نعمة الديمقراطية بعد. ولكن ما لم يكن ليحصل، حتى في الأحلام، يحصل، الآن، عند الكلام عن الرئيس ترامب.
ولم يكن من المألوف، أو حتى اللائق، أن يكتب أميركي محترم عن إدارة هذا الرئيس أو ذاك بوصفها نظام فلان، فالتعبير كان محجوزاً، بقدر واضح من الاستعلاء الأخلاقي، لأنظمة في القارّات الثلاث. ولكن البعض يتكلّم في أميركا، الآن، عن «نظام ترامب»، كما يتكلّم العرب عن نظام فلان، بقدر واضح من الإدانة، لهذا النظام أو ذاك في بلادهم. ولم يكن ليخطر على بال أميركي، من التيار الرئيس، أن يرى في وجه رئيسه على شاشة التلفزيون مجرّد قناع لموسوليني، أو حتى أن يتكلّم، كما فعل تشومسكي، عن حزب عريق في بلاده (الجمهوري) بوصفه أخطر تنظيم في العالم.
فما الذي حدث؟
قبل الكلام عمّا حدث، ينبغي التفكير في أشياء من نوع أن ظاهرة ترامب وثيقة الصلة بعالم الرأسمالية الذي أنشأته الثورة التكنولوجية الجديدة: عالم التلفزيون، والإنترنت، والكومبيوتر، والفيس بوك، وتويتر، والهواتف الذكية، والريموت كونترول، وتكنولوجيا القتل عن بعد، والإرهاب المعولم. هذا عالم جديد، تماماً، في حالة سيولة دائمة، وغير مسبوق. ولم نملك، بعد، لغة ومفاهيم وأدوات التفكير في عالم كهذا لأنه يتقدّم بسرعة هائلة.
لا أحد يعرف كيف ستكون صورة العالم حتى بعد عقود قليلة. أطل علينا، قبل أشهر، يوفال هراري صاحب «الإنسان العاقل: موجز تاريخ الجنس البشري» بتاريخ جديد: «الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد» ومفاده أن المجاعة، والطواعين، والحروب، أصبحت شيئاً من الماضي، وأن الموت نفسه يمكن تأجيله بأدوات العلم الحديث، الذي سيمكّن القادرين، في وقت لا يبدو بعيداً، من العيش ضعف أعمارهم. وستيفن هاوكنغ، أحد أبرز علماء الفيزياء النظرية، يعتقد أن على الإنسان الاستعداد لغزو الفضاء، وإنشاء مستعمرات هناك، لأن الحياة على كوكب الأرض لم تعد مضمونة في قرون مقبلة.
ما تقدّم، وغيره عصي على الحصر، ليس جزءاً من سيولة العالم، بل محاولة للترجمة، ومقاربة للسيولة في محاولة للقبض على دلالتها. سيقول البعض: وما يعنيني من هذا كله، كل هذه الأشياء ستحدث بعد موتي، ولدينا الآن أشياء أكثر راهنية وأهمية. ولكن العالم لا يفصح عن نفسه بطريقة كهذه، فالعالم خلاصة أشياء تتجاوز مكوّناته.
ذات يوم قيل لستالين إن ابنه يُكثر من استعمال اللقب العائلي (ستالين) للتأثير على الناس، فأنّبه. قال الابن: ولكن ستالين لقبي. ورد الأب: لا أحد يستطيع أن يكون ستالين، حتى أنا، فستالين هو قوّة السوفيات. والعالم (ظالماً ومظلوماً) هو قوّة السوق والعلم الحديث، وما ينشئ من ديناميات، ويُطلق من استيهامات، تتجاوز مكوّناته الفردية. هذا الباب يأخذنا إلى الأخلاق.
ولكن، ما يعنينا، الآن، يتمثل في مقاربة سمات أولى لحالة السيولة الدائمة هذه. ولعل أبرزها إحساس فادح بهشاشة العالم، وقلق كوني غير مسبوق، يزعزع ثوابت وجودية، يعبر القوميات، والأديان، والثقافات. كلاهما، إحساس الهشاشة والقلق، أبكم لم يعثر على لغته بعد، وكلاهما يتجلى في عالم غاب فيه الدليل، وضاعت البوصلة، في زمن ما بعد انهيار الأيديولوجيات الكبرى التي وسمت تواريخ الناس والعالم في القرن العشرين.
على خلفية كهذه تبحث الغالبية العظمى من بني البشر عن دليل وبوصلة، ولكن بطريقة جزئية تماماً، وبلغة مألوفة ومجرّبة، تتصدى لقضايا ومشكلات حصرية، يبحثون عن حلولها، في حياة يعيشونها، الآن، وهنا، لا فيما سيأتي من الأيام، بيد أن هذا لا يحدث بطريقة نظيفة، أو بريئة تماماً. فلم يسبق، في تاريخ الإنسان على الأرض، أن امتلك بنو البشر أدوات، وتقنيات، تُمكّن القادرين منهم، على «التلاعب بالعقول»، (تعبير بورديو عن الدعاية ومخاطر التلفزيون)، كما يحدث الآن. فكّروا في «الجزيرة» وتسويق الإسلام السياسي.
غادرنا بورديو قبل 15 عاماً، وما نعرفه ونستهلكه، ويستهلكنا ويُهلكنا، من تكنولوجيا وتطبيقات جديدة، يكفي للكلام عن تلفزيون بورديو بوصفه نوعاً من الخردة في عالم اليوم. ولكن فكرته الرئيسة لم تفقد قيمتها بعد. ومن حسن الحظ، أضاف المعلّقون الأميركيون، بعد صعود ترامب وأكاذيبه المُتلفزة، تعبيراً جديداً يُسهم في إغناء علوم الاجتماع والسياسة والنفس، هو «عالم ما بعد الحقيقة»، الذي يُفسّر ما يحدث للعقول بعد التلاعب بها، فهي لا تكف عن كونها عقولاً، ولكنها لا تعترف بنسبية الحقيقة، وتنفي حتى ضرورتها. ولعل في هذا ما يأخذنا إلى مجتمع الفرجة، والاستعراض، الذي تكلّم عنه غي ديبور، قبل أربعة وأربعين عاماً، للتذكير بحقيقة أن خصائص مجتمع الفرجة تضاعفت مرّات كثيرة، عمّا كانت عليه، في النصف الثاني من قرن مضى. وأن الحقيقة لم تعد ضرورية في مجتمع كهذا. والأهم أن أكبر مجتمع للفرجة في الكون نشأ في الولايات المتحدة، التي تحوّلت فيها أشياء كثيرة، بما فيها الانتخابات، إلى صناعة، وبضاعة، وفرجة، واستعراض، ومهارات سوق وتسويق.
بهذا المعنى، الرئيس الملياردير ترامب المولع بالتغريد على أغصان تويتر، الذي، كما كتب فيليب روث: «لا تزيد ثروته اللغوية عن سبعين مفردة»، هو وليد مجتمع الفرجة، الفائز بجائزة اليانصيب الكبرى. وربما في حساب النفس الذي يجريه أميركيون، الآن، ما يفتح أفقاً، لهم ولنا، للحيلولة دون النهايات الكارثية، كما تجلت في أدب نهايات الأيام. فقذافي البيت الأبيض (زعم أن الشمس أشرقت يوم تنصيبه)، أشد خطراً على العالم، وأكثر ضرراً، وعدوى، وسُمّية، من أحمق سكن خيمة في باب العزيزية.
من باب العزيزية إلى البيت الأبيض..!!
التعليقات مغلقة