ما أشرفكم..!

كما هي الفضائل الحقيقية لا الاستعراضية، لا يحتاج مفهوم الشرف الى كل هذه المزاودات التي يعج بها المشهد الراهن لا في العراق وحسب بل كل الممالك والولايات التي ما تزال تتوهم نفسها “خير أمة” وهي تتصدر قائمة سلالات بني آدم بالفساد والإجرام. والمصيبة الأعظم من كل ذلك، تكمن في صعوبة العثور على من يعي أو يخجل من كل هذه المعطيات المخزية لنا في شتى الميادين المادية والقيمية، والمضحك المبكي أن تجد الكثير منا يعدّ نفسه وجماعته وأسلوب حياته المتخلف أنموذجاً للشرف والتقوى، لا سيما عندما يحصرون الشرف في مناطق محددة من الأنثى فقط من دون وجع من عقل أو شرف أو ضمير. لذلك لا يشعر الفاسدون بالذنب على كل ما يقترفونه من موبقات وجرائم بحق بقية أفراد المجتمع، فشراهتهم في ابتلاع الثروات وحقوق الآخرين ولصوصيتهم المنفلتة لا تعني شيئاً، ما دامت الجبهة موسومة والأزياء مثقلة بادعاءات الفضيلة والتقوى، وبقية الديباجات والخطابات والاكسسوارات التي راجت بعد ظهور النسخ الجديدة من “المهاجرين والأنصار” والتي بشرت بقدومها جماعة التكفير والهجرة بداية الثمانينيات من القرن المنصرم؛ عندما فطس الرئيس المؤمن بالرصاص الأشد إيماناً، كما عبّر عن ذلك بدقة الأستاذ محمد حسنين هيكل، حول اغتيال السادات في حادث المنصة الشهير.
قبل نصف قرن تقريباً عرّى مظفر النواب كل هذه الادعاءات الزائفة عن الشرف والفضيلة والتقوى، في صرخته المشهورة: (ما أشرفكم أولاد الـ … إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم) هذه الطبقات المتخمة بكل أشكال الفساد، تسترت على الدوام خلف ترسانة هائلة من المكر والدهاء وشراء الذمم ونشر الخوف والرعب، كي تبدو بوصفها المدافع الوحيد عن ثوابت الأمة ولا سيما في ميادين الشرف والفضيلة والتقوى وبالتالي الدفاع عن “حدود الله” في هذه المجالات. مثل هذه الحيل والتقنيات الشرعية انتهت صلاحيتها، فيما يعرف اليوم بـ (الأمم الحرة) ولم يعد بوسع سلالات السدنة وشبكة المصالح والمؤسسات التابعة لها، فرض مثل تلك الإرادة الغاشمة على عيال الله، في تلك الممالك والولايات التي اقتفى سكانها أثر العلماء والفضلاء الحقيقيين لا المزيفين، وها نحن نطلع عبر وسائل الإعلام المختلفة على الخطابات الواقعية والمواعظ التي تحرص على الدفاع عن كرامة وحقوق وحريات البشر من دون تمييز؛ من أفواه كبار رجال الدين في تلك البلدان وعلى رأسها البابا فرانسوا، إذ لم تعد مسطرة أخلاق القرون الوسطى ومحاكم تفتيشها موجودة إلا في المتاحف وكتب التأريخ. غير أن أمر الأخلاق والفضائل والقيم في مضاربنا المنحوسة، شقت لها في العقود الأربعة الأخيرة طريقا آخر، بعد أن تسللت مؤمياءات المتاحف وكتب التأريخ الى تفصيلات حياتنا، تحت وابل كثيف من قذائف “الصحوة” الممولة من لقاء النفط والجهل وفضلات الحرب الباردة. لقد أكدت الأحداث والتطورات التراجيدية التي شهدتها المنطقة، بعد صعود حركات الإسلام السياسي ما دوّنه نيقولا ميكافيللي عن مخاطر الاستثمار السياسي للدين: (الدين ضروري للحكومات، لا من أجل الفضيلة، بل لفرض السيطرة على الناس). وهذا ما يجب أن ندركه قبل فوات الأوان، كي نتمكن من إعادة ترميم منظومة القيم الأخلاقية على أساس متين من إنتاج الخيرات المادية وجني الثروة وإعادة توزيعها واستعمالها بما يعزز روح الابتكار والإبداع وقيم الكرامة والشرف، بعيدا عن طفيلية الاقتصاد الريعي وأخلاقيات الغنيمة والفرهود وفقه الارتزاق..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة