علي حسن الفواز*
يبدو أن قدر الشعراء يدفعهم للتورط في فخاخ السياسة، وأن يتحولوا إلى أصحاب مدونات وتزجيات، وحتى أصحاب مواقف قد تكون محسوبة بحساب الخانات أو الأيديولوجيات، أو حتى الطوائف، إذ لا مناص من الاطمئنان للغة، والبلاغة والمجازات والاستعارات، فكلها أصبحت مناطق مباحة للخرق السياسي، ولم تعد هناك مساحات مخصصة للشعراء فقط، مثلما لم تعد هناك كتابات خالصة النقاوة، وآذان لاتصغي إلا للشعر فقط.
الشعراء يكتبون الآن بهوس عن هوس السياسة ذاتها، عن متاهاتها ومفارقاتها، وعن تشوش عوالمها، وعن غياب حدودها المنهجية والوقائية والبرامجية..فإذا كان السياسي العربي قد تحول الى صانع حروب وهزائم ومؤامرات وصفقات وخيانات، فان الشاعر العربي بات الفقيه والمؤول والواعظ الذي يقدّم خدماته المشبوهة للسيد السياسي، بوصف هذه الخدمات نوعاً من التبرير الأخلاقي لممارسة فعل الحرب والانقلاب والمؤامرة والاستبداد واخضاع الآخرين لسطوة السلطة وعصابها القرابي والأيديولوجي والطائفي.
هذه الوظيفة أعطت للكثير من الشعراء مجالاً مريباً؛ لأن يقولوا وأن يحللوا وأن يمارسوا كل تخصصات الفقه السياسي بوصفه نوعاً من البلاغة!!، وأن يضعوا مزاجهم في خدمة القضايا المصيرية للأمة، وللأيديولوجيا، وللحاكمدار، وأن يفلسفوا الصراعات والحروب على وفق تقانات المناهج التشريحية والبنيوية والسيميائية، فالدال يجول في غابة من المداليل، والفكرة غدت بلا يقين، والقيم غدت مركزيات تحتاج الى المزيد من التفكيك…فبدل فلسطين واحدة صارت هناك فلسطينيات، وبدل استعمار واحد صار هناك استعمارات متعددة، وبدل اسرائيل واحدة قامت في سردياتنا الحربية اسرائيليات كثيرة.. فهل سيغادر الشعراء متردم بني عبس وأسواق عكاظ والمربد والثلاثاء؟ وهل بات بمقدورهم أن يلجأوا إلى أسواق أكثر فرجة، والى تخوم أقل استعداداً لصناعة الأعداء؟ وهل باتت الوظيفة الثورية والأيديولوجية والانقلابية أكثر تحريضاً على إحالة الشاعر للتجاوز، وعلى اصطناع وظيفة الخطيب وواعظ السلطان أو خطيب الجماعة أو مدير الشجون البلدية أو حتى جندي الحدود القومية؟
هذه الأسئلة تبدو الآن مفارقة ومثيرة، لاسيما بعد أن تورط الجميع بـ(حروب الربيع العربي)، إذ خرجت الطوائف لهذه الحروب، وخرج الفقهاء لتفسير طلاسمها، واختلط فيها حابل الزندقة بالمنطق، والطائفية بالهوية، والوعي بالشقاوة، والعقل بالغواية، والحكومات بالفرق الناجية وغير الناجية..
وسط كل هذا ما الذي سيفعله الشعراء، اذ لم تعد القصائد نافعة ولا منقذة، ولاحتى طهرانية؟
أحسب أن الشعراء سيذهبون اضطراراً إلى هذا الهوس الاستعلائي والتعويضي، بحثاً عن أوهام الأمة المفقودة والشائهة، وبحثاً عن اطمئنانات مغشوشة لمحنة الوعي إزاء حروب يخرج فرسانها من التاريخ والمتحف والغبار.. الكثيرون يمارسون هذه الورطة، فمن(عباس بيضون، عقل العويط، بول شاؤول، أدونيس وإلى سعدي يوسف، و ربما آخرين)، هؤلاء يعيشون بالقرب من النار، لذا بات خيار الحرائق ضرورياً، كما إنهم يعيشون رهان الوعي إزاء التاريخ المأزوم، لذا لاخيار لهم سوى ممارسة لعبة الثأر القديم مع السياسي السلطوي والسياسي الخائن والمتخاذل والسياسي الديني والطائفي والرجعي واليساري جداً…ربما تكون لعبة في تبادل الأدوار!!!