حاورته: كريستينا أوملين
ينتقد المخرج التونسي والفنان التشكيلي ناصر خمير، في حواره التالي، تحويل الحياة الإسلامية إلى نوع من الثنائية: كل شيء هو إما «حرام» أو «حلال». لكنه ينتقد أيضاً عدم التعمق في فلسفة الثقافة العربية الإسلامية، ويرى أن الإسلام في الحقيقة هو ثقافة مصالحة مع النفس ومع الآخر. ولتسليط الضوء على جوهر الإسلام يسعى في فيلمه إلى اقتفاء أثر الفقيه الإسلامي والفيلسوف والشاعر المتصوف ابن عربي، الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي.
* في فيلمك تقتفي آثار محيي الدين بن عربي، الفقيه الإسلامي الكبير والفيلسوف والشاعر الذي عاش في القرن الثالث عشر. ما الدافع الأساس بالنسبة إليك لإخراج هذا الفيلم؟
– «البحث عن محيي الدين» فيلم عن الشيخ المتصوف الكبير محيي الدين بن عربي. الفيلم رحلة بحث عن هذه الشخصية عبر عشرة بلدان، وخلالها يتعرف المشاهد على جوهر الديانة الإسلامية. مَن يشاهد هذا الفيلم، تتكون لديه فكرة واضحة للغاية عن الإسلام.
*وما هو إسلام ابن عربي؟
– إننا نجد الإجابة في عديد من التفاصيل الصغيرة. تحضرني قصيدة لابن عربي تعكس بشكل جيد موقفه الفلسفي:
لقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ وألوحُ توراة ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجهتْ ركائبُه، فالحبُ ديني وإيماني
هذه الأبيات توضح جوهر الإسلام توضيحاً دقيقاً إلى حد كبير: هذه الرؤية للإسلام تكاد تكون مجهولة. وسط كل هذه الفوضى بخصوص الإسلام كان هدفي أن أجعل أفكار هذا الشيخ أكثر شهرة. ابن عربي يقوم بترتيب هذه الفوضى.
*هل لك أن توضح ما تقصد؟
– سأعطيك مثالاً: خلال حقبة معينة كانت النظافة والطهارة من سمات الإسلام. أما اليوم فلدينا في تونس أقذر شوارع في العالم. هذا مثال يظهر بشكل جيد كيف تحدث أشياء شاذة باسم الدين. لقد استولت طبقة من فقهاء الدين على الإسلام اليوم في تونس وجعلته رهينة. إنهم يشوهون الإسلام، ويشوهون الحياة ويحولونها إلى نوع من الثنائية، كل شيء هو إما «حرام» أو «حلال».
حتى الآن لم أحصل إلا على ردود فعل إيجابية على الفيلم. غير أن المجتمع التونسي اليوم مشغول بأشياء أخرى. المجتمع يصم آذانه الآن بعض الشيء إذا دار الأمر بشأن الثقافة، أو حتى حول الإسلام.
*ولكن الدين الإسلامي مهم بالنسبة إلى كثير من التونسيين.
– في عهد بن علي عمل المسؤولون على أن تذبل أرواح التونسيين. لقد ساعد بن علي بعض الناس على أن يكتسبوا ثراءً مادياً، هذا مؤكد، ولكن الأغلبية كانت تعاني نفسياً من انتشار الخوف. ولذلك لدينا في تونس اليوم أناس على درجة عالية جداً من التعليم وبشهادات أكاديمية ممتازة، إلا أنهم يعانون من فقرٍ في الجانب الإنساني لديهم. إنهم يعتقدون أن الحقيقة لا يمكن تفسيرها إلا علمياً، وأن ذلك جزء من الحداثة.
العلوم الإنسانية يتم تهميشها – الفلسفة والأدب والفنون، كل هذا لا وزن له بالنسبة إليهم. الصورة السائدة للعالم هي صورة ميكانيكية تقنية. إذا استعملنا تشبيهاً من السُّلَّم الموسيقي، فسنقول إن هؤلاء الناس يعيشون في نظام لا يتجاوز نوتتين أو ثلاث نوتات موسيقية.
*هناك إذن فراغ ما خلفته الديكتاتورية …
– هناك أمران: من ناحية هناك ذلك الفراغ، من ناحية أخرى هناك الرعب من تعقُّد هذا العالم. ولكن بدلاً من مواجهة هذه التحديات، فإن الناس يتخلون عن التفكير، ويصطفون خلف مَن يفكر بدلاً منهم، حزب مثلاً أو خطيب ديني. إنهم يتخلون عن التفكير لأنهم ببساطة جبناء. اقتران الجبن بالجهل – هذا هو المزيج الذي يدفع بالناس إلى ارتكاب أبشع الأشياء باسم الحقيقة.
*وكيف ضاعت إذن كل قيم الإسلام هذه؟ لقد كانت هناك تقاليد جامعية ثرية. جامعة الزيتونة مثلاً يجب أن تدافع عن سمعتها.
– ترتكز الجامعات إلى حد كبير على الثقافة الغربية من دون أن تضع الثقافة العربية في الوقت نفسه موضع تساؤل ودون أن تجددها. إن التعامل المعمق مع الثقافة العربية – بمعنى التساؤل عما يمكن الحفاظ عليه وعما يمكن التخلي عنه بكل ثقة – لم تحدث قط من الأساس. البعض يريد أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه في زمن السلف الصالح، ولا يريد التحرك – هؤلاء هم السلفيون. والبعض الآخر لا يريد أن يسمع شيئاً من ذلك، ولا يريد سوى الحداثة والعلم والتكنولوجيا – هؤلاء هم العلمانيون.
هذه ليست في الحقيقة مشكلة دينية، بل ثقافية. إنها نوع من عدم القبول بفكرة أن العالم يمر بتحولات، وأن الإنسان يمكن أن يفقد شيئاً خلال ذلك. ولأننا فشلنا في مواجهة هذه المشاكل ذهنياً، فقد أخرجوا الدرع الديني ليحتموا به. وهذا خطأ عظيم.
إضافة إلى ذلك فقد عاد عدد قليل من التونسيين الذين درسوا في الخارج إلى بلادهم. وما كان يمكن تعلمه من المواجهة مع الغرب، كان يمكن أن يكون قراءة جديدة الإسلام.
*ولماذا لم يتم البدء قَطّ بهذه القراءة الجديدة؟
– لأننا نفتقد الأساس الذي يمكن أن نبدأ عليه أبحاثنا. لا أحد قام بتمويل هذا الأساس، برغم أن المنطقة العربية بها ملايين كثيرة من دخل البترول. ليس هناك حتى معجم تاريخي للغة العربية. كثيراً ما أقول: إذا كان مقياس الأمل هو كمية العمل التي يجب علينا القيام بها فإننا أكثر الناس أملاً، لأن أمامنا الكثير وعلينا أن ننجزه.
منذ ما يزيد عن خمسين عاماً لم يعد في تونس مكان للثقافة، الثقافة الأصيلة غير المنسوخة، ولا مكان لفنٍ لديه رؤية ويقدم إجابات عندما يتوقف المنطق أو لا يجد العقل حلولاً. الثقافة في تونس هي في المقام الأول حدث ضخم احتفالي – عيد، تسلية خالصة. كل قرية صغيرة لها مهرجانها الخاص، مقارنة بذلك فإن حجم الإنتاج الثقافي الرفيع والنوعي صغير نسيباً. وبرغم أن البلد له تراث ثقافي ثري، فإننا لا نعرف الكتاب لدينا أو الخطاطين أو المعماريين. مع وجود هذا التجاهل فإن الثقافة تحفر قبرها بيدها. نحن لا نعرف شيئاً عن تراث بلدنا.
*أنت ترسم صورة سوداوية للغاية لوضع الثقافة في بلادك …
– غياب الجودة والامتياز واضح في كل مكان. لكن الامتياز تحدٍ، وهو ما يتطلب الدقة. لكننا نحاول دائماً أن نتأقلم بشكل من الأشكال مع الظروف. منذ سنوات ونحن نخترع وسائل لكي نتنصل عن المسؤولية، ولكي نسير في مسار متعرج. كيف لنا أن نكون أحراراً دون تحمل مسؤولية حقيقية؟ لا حرية بلا مسؤولية. بدلاً من ذلك فقد ربيّنا أنفسنا على عدم تحمل المسؤولية، وعلى التأقلم مع الظروف. يسقط المجتمع شيئاً فشيئاً في ما يشبه المستنقع الذي لن نستطيع الخروج منه بقوتنا الذاتية.
*أي الصعوبات تواجه الجيل الجديد في تونس؟
– الجيل الجديد اليوم يعيش بلا هوية، وبلا جذور، إنه يحيا بلا جاذبية أرضية. كل واحد منهم يستطيع أن يحكي لي عن جهاز الآي باد الذي يملكه، كلهم يسبحون على السطح، يتحدثون عن آخر المخترعات وكأننا نعيش في مدينة أميركية. لكننا في تونس.
ما يقلقني بالفعل هو هذا الكره الذي يتغلغل إلى كل مكان. كراهية الإسلامويين للغرب، وكراهية اليسار للإسلاميين. وكأن الكراهية هي المحرك الوحيد الذي يدفعنا إلى الأمام في الوقت الحالي.
فيلمي يتحدث عن النقيض من ذلك: الفيلم له تأثير مهدئ وسلمي. إنه يظهر الإسلام كثقافة مصالحة، المصالحة مع النفس ومع الآخر. كما أنه يبين أن على المرء أن يبذل جهداً حتى يستطيع أن يقابل الآخر بروح التفهم.
*عن موقع «قنطرة»