اتساع دائرة السرد في “رجال من لكش”

يوسف عبود جويعد

 

رواية “رجالٌ من لكش” وبعنوان فرعي” بين جبال قنديل وسيدي عمير” للروائي سلمان عبد مهوس، ملحمة من الملاحم النضالية والانسانية والاجتماعية، يقدمها لنا من خلال بطل الرواية وهو الذات الثانية للروائي، إذ يستهل الروائي عمله الفني هذا بكلمة تعدّ مدخلاً وعتبة نصية لمتن النص يقول فيها:

“الشجعان هم من ينتصرون لإرادة الخير دائماً، كالبيادر بأحلامهم الشجاعة وطموحاتهم الكبيرة، وبمواقفهم المبدئية السامية، يفيضون نبالة ومحبة وإنسانية، ويضيئون العالم بقيم العدل والتسامح والمساواة.”

وهذا المستهل الذي نقلت جزءاً منه، هو مدخل لأحداث ساخنة محتدمة منذ بدايتها، عندما يقرر محمد الهروب من الوطن، فقد اشتدت عليه المراقبة والترصد واعتقل من قبل ازلام السلطة البعثية الحاكمة، وخرج من الاعتقال بأعجوبة، وصارت حياته شاقة، وتبدأ محاولاته للهرب التي تبوء بالفشل مرات، الا أنه اخيراً وجد ضالته.

ينقل لنا الروائي معاناة البطل خلال رحلة السفر المضنية، التي تنوعت بأساليب مختلفة، ومنها اختراق صحراء قاحلة خالية من الحياة لا شيء فيها سوى الرمال، وتستمر لأيام طوال وهم يحملون مؤونتهم وماء الشرب، لصعوبة الطريق، حيث وجهته الى ليبيا للعمل كمدرس في “سيدي عمير”، وينقل لنا الروائي هذه الرحلة برؤية فنية صادقة، وبأحداث متواصلة وغير منقطعة، وهو يقسم فصول روايته الى عناوين لها صلة وطيدة بمتن الفصل.

بعدها نجد انفتاحاً كبيراً للرواية، وأحداثاً تتفرع وتتسع لتشمل حقب نضالية لا يمكن أن تنسى، أو يمحوها التاريخ، وهي جزء لا يتجزأ من تاريخ البلد، حيث ننتقل ومن خلال جلسات السمر في عالم الغربة، إذ لا يمتلك المرء هناك سوى هذا الكم من الذكريات وهموم البلد، فننتقل الى الفترة النضالية لرجال الكفاح المسلح، في مناطق الاهوار “الدواية” و”الغموكة”، وغيرها من الاماكن التي دارت فيها رحى المواجهة، وبشكل تفصيلي دقيق نابع عن معرفة المؤلف بكل التفاصيل التي تخص هذه المواجهة بين الحزب الشيوعي والقوى الامنية للنظام البعثي، وبشكل مشوق خال من المبالغة.

تتناوب الاحداث بين حياة بطل الرواية محمد في عمله كمعلم في سيدي عمير، والاحداث التي تدور فيها، والتفاصيل النضالية التي مر بها بطل الرواية لينقل جوانب مهمة من تلك الاعتقالات، وطرق التعذيب القاسية المدمرة، وينقل لنا حكايات غريبة وعجيبة، عن حياة المعتقلين وما حدث لهم.

ويبدو أن دائرة الاتساع في هذه الرواية قد كبرت والفروع تناسلت والحكايات تنوعت، كلما تقدمنا في متابعة مسار المبنى السردي، فينبري صديق (محمد) حامد ليحكي لنا حكايته وما حدث له في البلد، وهو ينتمي الى حزب الدعوة، وهي من أشد واصعب الظروف التي يمر بها الفرد في بلده.

كما لم تخلُ الرواية من العلاقة العاطفية، حيث نتابع تفاصيل تلك العلاقة التي نشأت بين ليان، وبطل الرواية محمد، والظروف التي اجبرت البطل بعدم الاقتران بسبب المطاردة والاعتقال والهرب.

يعتمد الروائي في سرد الاحداث على الوصف قبل بدء العملية السردية في كل حكاية، كما يعتمد كذلك على المشاهد الحوارية بين الشخوص، وينقل لنا مقاطع من اللهجة العامية لأبناء ليبيا، وكذلك نقل لنا جزءاً من أدب الرسائل من خلال الرسائل المتبادلة بين أطراف السرد، وبلغة مؤثرة تميل الى الواقعية الانتقادية، كما ننتقل من خلال العملية السردية على المعارك التي دارت رحاها ابان حرب الثمان سنوات، وينقل لنا وقائع ساخنة ومؤلمة من تلك الحرب:

“موقد الفحم يتوسط المكان، كما البراعم تتنفس الندى، نستذكر شجوننا في هذه الأجواء الممطرة التي تعم الروح بالدفء، حامد يشخص بنظره نحوي بينما يستغرق بتفكير عميق كمن هاجت به الآلام دفعة واحدة، تنهد بحسرة تكسرت مع انفاسه.” (ص 263 )

كما ينقل لنا لمؤلف انتفاضة آذار عام 1991 ، وتتناوب الأحداث بين حياة الغربة، والحنين للوطن، وحنين بطل الرواية الى أمه واخويه وحبيبته، وبين هذا الكم الكبير والواسع من الاحداث التي جرت اغلبها في منطقة الدواية مسقط رأس بطل الرواية.

ومن هنا تتضح لنا بنية العنونة “رجال من لكش”، حيث إن الرواية تقدم لنا شخصيات نضالية قاومت القمع والتعسف، لأنها امتداد لحضارة كبيرة هي حضارة سومر وأكد.

كما أن الرواية تستعرض لنا المدن والقرى والارياف في ليبيا بشكل تفصيلي، يقترب من أدب الرحلات، ونتعرف على الكثير من العادات والطقوس والتقاليد لأبناء ليبيا.

وهكذا نجد أن رواية “رجال من لكش” تناولت أدب الحرب، وأدب السجون والمعتقلات، والفترة النضالية للحزب الشيوعي، وادب الرسائل، والواقعية النقدية، من خلال التنوع السردي الذي استخدمه المؤلف في عملية صناعة روايته، وهي زاخرة بالأحداث التي لا تنقطع ولا تتوقف، كون الامر لا يتوقف على رحلة الهروب، بل تعدى ذلك لتكون تلك الرواية واحدة من الروايات التي توثق فترات مختلفة لنضال شعبنا ضد ازلام الدكتاتور، وبتفاصيل صادقة، وكتبت بعناية ودقة بشكل يجعلها واحدة الروايات التي تستحق ان تكون في صفوف الروايات المهمة، لما تحمل من نسق فني وقدرة على احتواء هذا الكم الكبير من الاحداث، وبلغة ساخنة تنسجم وسياق العمل الروائي ومبناه السردي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة