كريم جخيور شيء عن الميتا شعر في قصيدة “نثر” للشاعر كريم جخيور

د. عادل الثامري

تشتغل قصيدة كريم جخيور «نثر» كنوع من الميتا شعر، على التقنيات المستخدمة في قصيدة النثر ودور اللغة. ونحاول في هذه المقالة تحليل كيف تعكس القصيدة طبيعة كتابة الشعر وموقف الشاعر من الاشكال الشعرية، لا سيما الانتقال من الشعر التقليدي إلى قصيدة النثر.

يكشف “وأنت تنظر الى العالم/ من نافذة الشعر” عن رؤية ميتا شعرية عميقة، حيث تتحول “نافذة الشعر” إلى استعارة مركزية تؤسس لفهم طبيعة العمل الشعري وعلاقته بالواقع. فالنافذة هنا ليست مجرد إطار للرؤية، بل هي موقع معرفي وجمالي يتيح للشاعر تأطيراً خاصاً للعالم، حيث يصبح الشعر أداة معرفية وجمالية في آن واحد. والفعل المضارع “تنظر” يشير إلى استمرارية هذه العملية وتجددها، فيما تشكل “نافذة الشعر” وسيطاً بين الذات الشاعرة والعالم الخارجي، والشعر ليس مجرد انعكاس للواقع بل إعادة تشكيل له وفق رؤية جمالية خاصة. وتؤسس هذه الاستعارة لفهم الشعر كموقع للمشاهدة والتأمل والتحويل، حيث يصبح الشاعر راصداً ومحوّلاً في آن واحد، يعيد تشكيل العالم من خلال عدسة الشعر التي تمنح الواقع أبعاداً جديدة وتكشف عن جوهره الخفي.

يصور الشاعر في “عليك أن تزيل عن جسد الكلمات الدمامل والفقاقيع” اللغة على أنها كيان جسدي حي يمكن إصابته وشفائه. والمعنى الميتا شعري هنا هو أن على الكاتب تنقية اللغة وتجريد التجاوزات والعيوب. إن صورة الكلمات التي لها “جسد” يمكن أن يصاب بالمرض أو الشفاء هي صورة فاعلة، ما يشير إلى أن اللغة ليست مجرد أداة ولكنها نظام حي يتطلب الرعاية والاهتمام. يمكن أن تمثل “الدمامل والفقاقيع” كليشيهات أو فائض عن الحاجة أو زخارف اصطناعية تحجب المعنى بدلاً من تعزيزه، ويصبح الشاعر كالجراح الذي يمارس عملاً دقيقاً في إزالة الأجزاء المريضة من اللغة بهدف الكشف عن جوهر اللغة.

ان استعارة “إكسير الحياة” في “وتمنحها ما تملك من إكسير الحياة” تشير الى أن الكتابة الفعالة يمكن أن تبث حياة جديدة في الكلمات، وهو مفهوم يتوافق مع فكرة إليوت (1921) عن عقل الشاعر على أنه “وعاء للاستيلاء على المشاعر والعبارات والصور التي لا تحصى وتخزينها”. إن لفكرة “إكسير الحياة” دلالات خيميائية، تضع الشاعر في موقع الخيميائي اللغوي الذي يمكنه تحويل اللغة الأساسية إلى شيء ثمين ومانح للحياة. تمتد هذه الاستعارة إلى الصور الجسدية السابقة، مما يشير إلى أن الشاعر لا يشفي اللغة فحسب، بل يضفي عليها نوعًا من الخلود.

ينتقد الشاعر الزخرفة السطحية في الكتابة: “فأنت لا تذهب مع دمية /مهما برعوا في تجميلها إلى السرير/حتى لو كان وثيرا”، وهذا انعكاس للرفض الحداثي للبلاغة المفرطة. تشير استعارة الدمية المزخرفة إلى أن الزخرفة الاصطناعية، مهما كانت جذابة، تفتقر إلى أصالة وحيوية التعبير الحقيقي. ان البصمات الجنسية لهذه الاستعارة تساوي الكتابة المزخرفة الجوفاء بنوع من الإغواء الأدبي الذي يثبت في النهاية أنه غير مرضٍ. تؤكد صورة السرير “الوثير” بشكل أكبر على فكرة الراحة والرفاهية التي قد تجذب في البداية ولكنها تفشل في النهاية في توفير الرضا الحقيقي. تمثل هذه الاستعارة نقدا لبعض التقاليد الشعرية التي تعطي الأولوية للجمال الشكلي أو الالتزام بالتقاليد على حساب التعبير الأصيل.

كما ان نص القصيدة وعبرة صورة الفطام في “عليك أن تفطم الكلمات/ من ثدي القواميس” يدعو، وعبر توجيه ميتا شعري، إلى الانفصال عن استخدام اللغة التقليدية.  تُمثل هذه الاستعارة دعوة ميتا-شعرية للانفصال عن اللغة التقليدية. تصور الاستعارة القواميس كـ “ثدي” يغذي الكلمات، مشيرة إلى أن الاعتماد على اللغة التقليدية يشبه الاعتماد الطفولي الذي يحتاج الشاعر الناضج إلى تجاوزه. يرتبط هذا المفهوم بفكرة فيتغنشتاين القائلة بأن “حدود لغتي هي حدود عالمي”، لكن النص يقترح إمكانية تجاوز هذه الحدود من خلال الابتكار الشعري. تتماشى هذه الرؤية مع التقاليد الشعرية الطليعية كالسريالية وشعر اللغة، مع الإقرار بأن عملية “فطام” الكلمات من القواميس قد تكون مؤلمة ومزعجة، لكنها ضرورية للتحرر من القيود اللغوية التقليدية وخلق أساليب تعبيرية جديدة.

وفي “حينها ستشع وتبرق/ فلا تحتاج الى بوق نحاس/أو راوية ألثغ” تشير القصيدة إلى أن التعبير الشعري الحقيقي له لمعان متأصل لا يتطلب تضخيمًا اصطناعيًا. يمكن تفسير رفض “بوق نحاس” و ” راوية الثغ” على أنه رفض للخطاب المزخرف والنقل المتأثر، مشددا على التفضيل الحداثي للمباشرة والوضوح. ان صورة الكلمات التي «تشع وتبرق» تقدم اللغة على انها مصدر للضوء، وقادرة على إضاءة الواقع دون الحاجة إلى الزينة الخارجية. وهو في هذا يتفق مع المبدأ التصويري المتمثل في تقديم انطباعات حسية مباشرة دون تعليق زائد. يمكن أن يمثل “بوق النحاس” أشكالًا عالية من التعبير تبحث عن الاهتمام والتي تعطي الأولوية للصوت على الجوهر، في حين أن «راوية الثغ” يرمز إلى أنماط النقل المتأثرة أو غير الصادقة.

تؤطر الاستعارة في “وكلما كانت دانية عناقيد العنب/فلا تقطف منها إلا ما يزيدك فتوة وصحوا وبهجة” فعل الكتابة بوصفه عملية انتقاء دقيق، مع التأكيد على الجودة على حساب الكمية. تحيل صورة عناقيد العنب “الدانية” إلى وفرة المواد الشعرية وإمكانية الوصول إليها، لكن التعليمات للاختيار بشكل انتقائي تعني أنه ليس كل المحتوى المحتمل له القيمة نفسها. معايير الاختيار – الفتوة والصحو والبهجة- مثيرة للاهتمام، حيث تؤكد على إمكانات الشعر للتنشيط (الفتوة) وقدرته على توفير البصيرة (الصحو) والارتقاء العاطفي (البهجة). فالشعر ليس مجرد تمرين جمالي، وانما ممارسة تؤكد الحياة.

إن رفض وادي عبقر الأسطوري في “وعليك أن لا تذهب الى وادي عبقر/فما عاد صالحا لرعي الثيران المجنحة” يمثل انفصالًا عن المفاهيم التقليدية للإلهام الشعري. يمثل وادي عبقر في التراث العربي مكافئاً لجبل هيليكون اليوناني كمصدر للإلهام الشعري. وإعلان أن الوادي لم يعد صالحاً “لرعي الثيران المجنحة” يشير إلى أن مصادر الإلهام التقليدية لم تعد ملائمة للشعر المعاصر. تعكس صورة “الثيران المجنحة” التي لا تجد مرعى لها عدم التوافق بين الأشكال الشعرية التقليدية والواقع المعاصر، مما يتماشى مع التوجهات الحداثية وما بعد الحداثية في البحث عن مصادر إلهام جديدة في الحياة اليومية.

تتجلى التوجيهات الميتا شعرية في “عليك أن تقف وسط الريح/ مخضبا بالرؤيا/ تنظر الى شجرة الحياة/وتتعلم منها درساً في الفصول”، وتكشف المضامين الميتا شعرية عن فهم عميق لعملية الإبداع الشعري ودور الشاعر. أن الشعر ليس مجرد مراقبة سلبية، بل موقف متعمد يتطلب مواجهة مباشرة للتجربة، كما يتضح في صيغة الأمر “عليك أن تقف”. تشير عبارة “مخضباً بالرؤيا” إلى تجاوز المراقبة المجردة نحو تجربة تحويلية تترك أثرها المادي على الشاعر. ويؤسس الانتقال من “تنظر إلى شجرة الحياة” إلى “تتعلم منها درساً في الفصول” مفهوماً للشعر بوصفه عملية تتطلب انتباهاً مستمراً للأنظمة الرمزية، حيث يصبح العالم الطبيعي نصاً أولياً للتعلم المباشر. يقدم هذا المفهوم الشاعر كوسيط يترجم التجربة المادية إلى رؤية، والرؤية إلى معرفة.

 

 

نص

أسامر الألوان

لبنى ونوس

فأعرف أن للأسماء التي أنطقها

مسمى آخر لا تتقنه الأصوات

أقطف البراري بعيني دون أن ألمسها

فأدرك أن للأشياء حدائق تختفي وراء أسوارها

أسوارها العاتية التي تتهدم بترنيمة من شفاه حالمة

أُنْطق الصمت بجحافل الفكرة

فأوقن أن سلسبيل صوتك أحفظه كساحرة تعرف أستعادة

طقوس أسلافها بمهارة

أو كمتعبد تتلوه تسابيحه من فرط انغماسه

أحادث واحدة أخرى أظنها أنا

لا أريها قلبي

فأبدو أمامها كمحارب مكشوف لا يحمي ظهره سوى

يقين يستله حين التباس

أتقدم ، أتوقف ، أشكك ، أهجس، أغني ، أصلي ، أصمت ، أبكي ، أكتب ، أمحي ، أنسى ، أتناسى ، وأحارب .

أطالب الإشارات بالتقدم

فتُغرقني براوئحها تارة

وتحملني على كفها تارة أخرى

أفعال لا تطيق الإعراب حيث لا زمن واضح

ولا مكان يتحمل جبروت المعاني

كل ما أفعله تردده النجوم التي لا أرى غالباً

في سماء تعلو رأسي عقدت حلفاً أبدياً مع غيمة شاسعة

بحجم صباح .

أسترسل فلا أصل …

هل من نهاية مناسبة لسيرة الجنون هذه ؟

لا أظن

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة