احمد فضل شبلول
تساءل الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة عن الأسباب الكامنة وراء البلبلة الأدبية الحادثة الآن.
وعلى ضوء مقدمته لكتاب «تجارب نقدية وقضايا أدبية» على أنه «نوع من المتابعة التي يسودها الإحساس العميق بضرورة الوصول إلى رؤية واضحة لكثير من القضايا الأدبية في مثل هذه المرحلة الانتقالية التي هي من أشد المراحل حاجة للتأمل والبحث والدرس»، وهذا الإحساس يسيطر على القارئ بالفعل من صفحة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر.
وتدلنا على هذا عناوين الموضوعات المطروحة نفسها، وبعض الأفكار التي وردت فيها.
فتحت عنوان «الشعر العربي الحديث في السبعينيات» يقول أبوسنة (ص 20)، من كتابه الصادر عن دار المعارف بالقاهرة، «يبدأ عقد السبعينيات وكآبة العجز تخيم على الوجدان القومي إزاء الهزيمة الفادحة. إننا نستطيع أن نلحظ مع مطالع السبعينيات هذه الظواهر الأساسية:
ــ انحسار التماسك الفكري إزاء اضطراب الواقع.
ــ ضمور النشاط الشعري للشعراء الرواد والذي اتسم بالإيغال في الهموم الذاتية.
ــ ظهور شعر المقاومة كتيار رائد متميز داخل الشعر الحديث، وكان شعر محمود درويش وسميح القاسم على الخصوص يؤكد قدرة الشعر الحديث على الاستجابة للحظة التاريخية وتجاوز مفهوم شعر المناسبات السياسية. ولكن هذا التيار برغم وضوحه وتميزه لم يستطع تمثيل حركة الشعر العربي كلها.
ــ ازدهار الأصوات الشعرية لشعراء الستينيات.
ــ ظهور جيل جديد ينتمي إلى آفاق السبعينيات باضطراباتها الفكرية وزلازلها السياسية وشكوكها القومية. هذا الجيل الذي ينقسم إلى ثلاثة تيارات: أ – تيار لم يبدع نتاجًا شعريًّا يمكن أن يحدد هوية شعرائه بصورة تسمح لهم بالتأثير في معاصريهم. ب – تيار التجريبيين الذين اكتسحتهم ظلال أدونيس الكثيفة. ج – تيار وقف على حافة التيارين السابقين، يحاول الاستفادة من كل التيارات دون أن تكون له فاعلية أو تميز واضح.
ــ محاولة إعادة القصيدة كما عرفتها المدرسة الرومانسية والكلاسيكية إلى الساحة. وفي رأي المؤلف، تظل هذه المحاولة عديمة الجدوى، لأن الذوق العام تحول إلى جنب الحداثة. وأصبحت محاولات إعادته إلى مراحل سابقة مرهونة ببعض النجاح المحدود في الندوات والمؤتمـرات ذات الطبيعـة الخطابيـة.
ومع تقدم عقد السبعينيات تتضح ملامح الرؤية الشعرية لهذا الجيل الملقب بجيل السبعينيات والتي يحددها أبوسنة في النقاط التالية:
ــ حدوث نوع من التناقض بين اللغة المستخدمة في القصيدة التي تميل إلى البساطة وبين الصورة الشعرية التي تقترب من النهج السريالي.
ــ تمزق الرؤية القومية.
ــ التمييع الفني ومحاولة الاعتماد على القصيدة كطريق للفرار بدلا من أن تكون طريقة للكشف.
ــ ظهور قصيدة النثر التي أكملت دائرة القطيعة حولها مع القراء.
وفي هذا الفصل يخلص محمد إبراهيم أبوسنة إلى أن الشعر العربي في السبعينيات يبدو أقرب إلى طبيعة الكرنفال، ولكنه أبعد ما يكون عن البهجة، إنه مهرجان للكآبة والتمزق وافتقاد التواصل والتشرذم بعيدا عن الرؤية القومية، وعن الأطر الأيديولوجية، وعن الموضوع الفكري. إنه صرخة جريح يعرف أنه بلا مُعين أكثر منها صرخة احتجاج ضد الحصار المضروب حوله.
وتحت عنوان «آفاق التجديد أمام الشاعر العربي المعاصر» يذهب أبوسنة إلى أن هذه الآفاق تظل محدودة أمام الأجيال جميعا، إذ ظلت عناصر العزلة الفكرية والوجدانية والاجتماعية قائمة بالصورة التي عليها الآن، وأن الشاعر المعاصر لن يعثر على ذاته التي أضاعها حين عكف عليها وحدها إلا بالبحث عن ذوات الآخرين والتعبير عنها. كما يذهب إلى أن الشعراء الذين يحلمون بالريادة الفنية من خلال مجرد الخروج على مواصفات اللغة والموسيقى وتحطيم حدود الخيال الشعري بطريقة تنتفي معها أصول التفاهم الإنساني، فهولاء ليسوا مجددين بل ضحايـا انهيـار الواقـع.
ويحدثنـا أبوسنة عـن مفهومه للحداثة في الشعر العربي فيقول (ص 48) إن مفهوم الحداثة في أعمق تصور هو موقف من الماضي، والشعر هو الفن الأدبي الذي يضرب بجذوره في أعماق القرون، لهذا كانت حداثته أمرا بالغ الأهمية، ولعل أخطر مجالين تجسدت فيهما الحداثة في الشعر هما: اللغة، ووظيفة الشاعر.
إن الحداثة في مجال اللغة تتجاوز كونها موقفا نقديا من الماضي إلى أن تكون جماعا للأزمنة الثلاثة، وتتجاوز كونها انعكاسات للحدث الخارجي لتكون تجسيدًا لامتزاج العالم بالذات. أما وظيفة الشاعر، فإن الشاعر الحديث أصبح صوتا للضمير الغائب، ضمير الأمة الذي قد يكون متناقضا مع الهيكل العام. إن مهمة الشاعر الحديث أصبحت هي الكشف عن علاقات جديدة بين الأشياء وتجسيد, المعاناة ويخلص أبوسنة في هذا الفصل إلى أن الحداثة ليست مجرد أفكار الماضي، كما أنها ليست تعداد ظواهر الحاضر ولا القفز في المستقبل، بل إنها روح التوازن بين الأزمنة.
مازالت روح المتابعة التي يسودها الإحساس العميق بضرورة الوصول إلى رؤية واضحة لكثير من القضايا الأدبية في مثل هذه المرحلة الانتقالية سارية المفعول في هذا الجزء من الكتاب، ولا يزال التيار يسري بنا ويحملنا إلى آفاق الحداثة والمعاصرة، فنجد المؤلف يحدثنا عن مراحل التجربة الشعرية عند صلاح عبدالصبور، وعن تطور الرؤية الشعرية في «كائنات مملكة» الليل لأحمد عبدالمعطي حجازي، وعن الملامح الصوتية في التجربة الشعرية عند فاروق شوشة، وعن صورة الذات في «أوراق الغرفة 8» لأمل دنقل. ويعرج بنا إلى قراءة في ديوان «الخروج من دوائر الساعة السليمانية» لعبدالعزيز المقالح.
ثم يعود مرة أخرى للحديث عن جيل السبعينيات في الشعر المصري من خلال أصوات الشعراء: محمد أبودومة، ومحمد فهمي سند، ونصار عبدالله، وأحمد عنتر مصطفى، وحسن طلب.
ثم يذهب في الفصل المعنون بـ «ظواهر فنية جديدة في القصيدة الحديثة» (ص 114) إلى أن مرحلة جديدة قد بدأت في كتابة القصيدة العربية، ولكن هذه المرحلة في حاجة ملحة إلى نظرة مكثفة بعد تقويم الماضي كله لتتمكن الأجيال الجديدة من التوجه إلى المستقبل في إطار الإضافة الكمية والكيفية للقصيدة الحديثة، وهذه هي مهمة النقد الأولى.
وفي آخر فصول هذا التيار الذي يسيطر على القارئ، يحدثنا المؤلف عن قصيدة النثر (ص 126) التي تظل تجربة فنية تمثل إضافة متميزة، ولكنها بكل تأكيد ليست المرحلة القادمة في الشعر العربي. إنها ستكون كارثة على الشعراء لو أنها قدمت نفسها كبديل لحركة الشعر العربي الحديث.
بعد ذلك، وابتداء من ص 137 وحتى نهاية الكتاب، ينقطع التيار الذي كان ساريا والذي كانت تسوده روح الحداثة والمعاصرة، وروح المتابعة التي حددها لنا المؤلف في المقدمة، ليحدثنا عن «النيل في الشعر المصري والسوداني»، و»الناقد مصطفى عبداللطيف السحرتي الذي عاش في تواضع ومات في صمت»، و»حكايات على لسان الطير – مغامرات حمامة تطير كالسهم».
غير أن أهم فصول هذا الجزء، الذي جاء بعد عودة التيار، هو «نحن والثقافة الغربية» لأنه موضوع لم يزل الحديث عنه طازجا ومهما. فهو يتعلق بكياننا وبوجودنا كعرب في هذا العالم، ولعل هذه الفقرة تمثل رأي المؤلف في المشكلة ككل. إنه يقول (ص 160): «إن شكل العلاقة بين ثقافتنا العربية، والثقافة الغربية يتجسد في آلاف الوسائط ودون التفكير العميق في توجيه التأثر الغامر للثقافة العربية على موقفنا الحضاري، فإننا نترك الفرصة تتجاوزنا لنقع في موقف التابع لا الند».
لا شك أن كتاب «تجارب نقدية وقضايا أدبية» للشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة ينتصر للمستقبل، ولا شك أنه، وكما يقول صاحبه (ص 9)، محاولة لتطويع الأمل أمام جموح هذا الواقع لكي يلتقي الشاعر والأديب على موعد سعيد مع العصر الذي يعيشانه، ولكي يضعا بعض الملامح للعصور التي سوف تقبل.
- عن ميدل أيست أون لاين