عواد علي
حين نتحدث عن أهمية الشعر في حياتنا غالباً ما نستذكر عبارة جان كوكتو “الشعر ضرورة.. وآه لو أعرف لماذا”. وأرى أن أفضل مَن أجاب عن التساؤل في هذه العبارة هو الفيلسوف إدغار موران بقوله “الشعر أول مهارات حسن العيش وآخرها، فهو تمسك بجمال العالم والحياة والإنسان، وفي الوقت نفسه مقاومة لقسوة العالم والحياة والإنسان”. وذلك لأن الشعر يحاول أن يعبر بالكلمات إلى ما لا تستطيع الكلمات أن تقوله، حيث يتقدم إلى حدود اللغة، وإلى حدود ما يُقال، وإلى حدود الوعي، إنه يرى من خلال المرئي ما وراء المرئي، وهذا ما يطلق عليه رامبو الاستبصار.
إذن، حاجة الإنسان إلى الشعر مثل حاجته إلى الماء والهواء والنبات، ولولاه لما وُجد الغناء ولا الموسيقى، ولا معنى لأن يكون زمنه قد مات أو خبا أو وُضع في غرفة العناية المركزة. وأذكر أنني كتبت يوماً ما “أظن أن آدم أول ما نطق به حين هبط إلى الأرض كان قصيدةً غازل بها حواء تعبيراً عن امتنانه لها لأنها عصت الربّ، وصار بإمكانهما ممارسة الحب بحرية».
ما يقال عن سيادة الرواية على الشعر، وتربّعها على عرش الأدب في عصرنا الحالي، خاصةً في عالمنا العربي، لا ينبع من إدراك قائم على تفوّق الأولى إبداعياً على الثاني، ولا على انحسار الشعر أو عجزه عن استكناه قلق الإنسان، وسموّ روحه، وحيرته الوجودية، وكشف مواطن الجمال والمآسي والمواجع والجروح والعواطف، ومشاكسة اليقينيات، وغير ذلك، بل لأسباب كثيرة في مقدمتها إغراءات المسابقات والجوائز التي تمنحها بعض المؤسسات الثقافية العربية للرواية، مثل جائزة البوكر وكتارا والشيخ زايد والشارقة ونجيب محفوظ (الجامعة الأميركية في القاهرة) والطيب صالح في السودان وغيرها، وإقبال العديد من دور النشر على نشر النتاج الروائي لدوافع مختلفة، وتراجعها عن إصدار الدواوين أو المجموعات الشعرية، ما دفع العديد من الشعراء إلى ركوب الموجة والتراخي أو التوقف عن تطوير مشاريعهم الشعرية، وكذلك انجراف مَن يفتقرون إلى موهبة الكتابة، ومَن لم يقرأوا عشر روايات في حياتهم، إلى عالم الرواية، وهوس الجيل الشاب به، وانحسار اهتمامه بكتابة أشكال أدبية أخرى، اعتقادا منه بأن الرواية غدت الفسحة المناسبة له للتعبير عن مكنوناته، وتحولت إلى فعل حرية تتناسب عكسيا، أو تأتي ردة فعل على حياتنا المحافظة والمنغلقة على نفسها.
كل ذلك، إلى جانب ركاكة الكثير من تجارب قصيدة النثر التي تنشر هنا وهناك إلكترونياً من دون معيار، أدى إلى شيوع وهم “زمن الرواية”، بالرغم من أن ثلاثة أرباع الروايات التي تنشرها بعض دور النشر، مقابل مبالغ يتكبدها مؤلفوها، هزيلة تنحو منحى رومانسياً مائعاً أو تقليديا، ويعوزه الإتقان والإحكام من الناحية الفنية، بل تتسم بضعف مكونات أبنيتها السردية من حبكة وشخصيات وحوار ومنظور سردي وما يتصل بها من تقنيات وركاكة في الأسلوب، ما يدعو إلى السؤال عن أحقية انتمائها إلى الفن الروائي!
هل عاد زمن الشعر، أو أنه سيعود؟
أظن أنه نعم، وعلى النقاد والمنابر الثقافية والمؤسسات الأكاديمية أن يسهموا في تعزيز مكانته.