عبد علي حسن
استمدَّت قصيدة النثر قوّة ظهورها وحيازة سرعة قبولها في المجتمع الفرنسي من فواعل ثلاثة كما نراها ؛–
الأول / ظهور المفاهيم الجديدة التي فصلت النظم عن الشعر ، واكتساب مفهوم الشعر شمولية وسّعت من دائرة إمكانية وجود الشعرية في غير جنس الشعر والنثر مثلاً , فلم يعد الوزن والقافية هما معيارية النص الشعري .
الثاني / ارتباط ظهورها في الأزمنة الحديثة / مرحلة الحداثة التي شكّلت قطيعة ابستمولوجية وفلسفية مع مرحلة مجتمع ماقبل تحوّل المجتمع إلى العصر الصناعي واستلام البرجوازية قيادة المجتمع .
الثالث / توفّر الظروف الموضوعية التي ساعدت على سرعة قبول الجديد / الحديث ، إذ كانت الأذهان مستعدة لإحداث التحول الإجتماعي ، وسيادة الأفكار الداعية إلى التحرر من الميتافيزيقيا التي قادت المجتمع إلى حالة السكون والجمود وشيوع الأفكار الغيبية التي كرسها الكهنوت الكنسي وبلغت أوج سيطرتها في القرون الوسطى .
ولعل هناك فواعلَ أخرىٰ توصلت إليها سوزان برنار في كتابها الأثير المعروف عن قصيدة النثر الفرنسية ، وغيرها من الدراسات اللاحقة التي اهتمت بالظروف الموضوعية والذاتية التي ادّت إلى ظهور قصيدة النثر وعوامل قبولها وانتشارها ، إلّا اني اقترحت الفواعل المذكورة أعلاه بدافع تكريس القيمة الفعلية لقصيدة النثر بعدّها نوعاً شعرياً جديدا توفرت له أسس الظهور كالقصدية والتكرار والتجاوز ، كما أنه يجمع المتناقضين وهما الشعر/ النثر ، وان قيمتها الفنية تكمن في داخلها وليس من خارجها ، مما منحها امتياز التضاد والتمرد على كل ما يجعلها ساكنة راضخة لعوامل التقنين والقولبة ، الأمر الذي جعلها أيضاً ترفض النمطية والرتابة ، فهي دائمة التحول والصيرورة شأنها شأن الحداثة التي أنتجتها ، وبهذه التوصيفات وغيرها تم استعارتها إلى البنىٰ الاجتماعية من خارج المجتمع الفرنسي الذي دخل عصر الحداثة كممارسة حياتية فعلية منذ الثورة الفرنسية عام 1889 وإعلان لائحة حقوق الإنسان ، ومن المجتمعات التي استعارت هذا الجنس هو المجتمع العربي بعد مضي نصف قرن على ظهورها كشكل شعري حاز على الاعتراف الرسمي به في بيئته الاجتماعية التي ادّت إلى ظهوره ، إلّا أن مشروع قصيدة النثر العربية قد تم تأسيسه علىٰ ماورد في كتاب سوزان برنار بقضّه وقضيضه ، وبمعنى ٱخر فإن المشروع العربي نُقلَ جاهزا ، على الرغم من محاولات أدونيس وانس الحاج للإشارة إلى وجود ارهاصات لهذا الجنس في التراث العربي ، كالنصوص الصوفية مثلا ، إلّا أن مشروع قصيدة النثر العربية ظلّ مشروعاً بتوصيات النص الفرنسي وخصائصه التي توصلت إليها سوزان برنار في كتابها ، لذلك فإن الجدلَ لايزال قائماً حول مشروعية ومقبولية هذا الشكل في البنية الثقافية العربية التي شهدت تحولاً جذرياً وثورياً على مستوى الانقلاب وتجاوز العمود الشعري منذ عصر ماقبل الإسلام وحتى اربعينيات القرن الماضي بظهور المشروع الحداثي لقصيدة التفعيلة ، وفي الوقت الذي أعلنت فيه التجارب الريادية الأولى لقصيدة النثر ثورتها وتمردها على الشكل التقليدي وحتى المحدث عبر التخلي عن الإيقاع الخارجي الذي يمنح النص خصائص انتماءه لجنس الشعر والمتمثل بالوزن والقافية ، فإن محاولات توفير فرص مقبولية قصيدة النثر على المستوىٰ الثقافي والاجتماعي لاتزال قائمة عبر التأكيد على عدم التخلي عن الإيقاع في هذه القصيدة وان تخلّت عن الإيقاع الذي يحققه الوزن والقافية ، فلايزال العديد من كتاب هذه القصيدة وبعض الدارسين يؤكدون علىٰ وجود ايقاع داخلي ، وهو كما نراه وَهمٌ يضرّ بقصيدة النثر من حيث يعتقدون بصحة وجوده كشكل غير مفارق كليّا للشعرية العربية لإسباغ شرعية وجودها إلى جانب الأشكال الشعرية الأخرى ، إذ أن أية محاولة لوضع تقنيات مكرّرة تعدّ تجافياً ومحاولة تتنافىٰ وجوهر قصيدة النثر القائم على التحول والتمرد المستمر حتى على ذاتها ، لذلك فإننا نعتقد بأن اعتماد التكرار والتوازي والطباق والجناس والتمثيل والاشتقاق كٱليات وتقنيات تحقق لقصيدة النثر ايقاعاً داخلياً هي محاولة يائسة ولاتسهم في تأسيس مشروع لقصيدة نثر عربية وذلك يعود لسببين :–
الأول / أن هذه التقنيات الشكلية تختص بجنس الشعر الذي يحرص على تحقيق الإيقاع بشكليه الخارجي والداخلي ، والتقرب من هذه التقنيات هي محاولة تتزلف بها قصيدة النثر لاشكال الشعرية العربية العمود والتفعيلة وحتى الشعر الحر الذي يعاني حتى الٱن من التباس في المفهوم والإجراء .
الثاني / أن وجود تقنيات عامة تمتد على تفاصيل جسد قصيدة النثر يوقعها في تضاد وتناقض مع الخصائص الجوهرية لقصيدة النثر التي ترفض الرتابة والتنميط والتكرار وتتجه دائما إلى التحول والصيرورة المستمرة والدائمية فهي لا تميل إلى الإكتمال ، إذ أن التقنيات التي أشرنا إليها آنفا والمؤمل أنها تحقق الإيقاع الداخلي ستكرس الرتابة والتكرار كخصائص عامة ترفضها قصيدة النثر رفضاً قاطعاً .
وإذا كان الإيقاع لغة واصطلاحاً يعني وحدة النغمة التي تتكرر على نحو ما في الكلام أو في البيت ، أي توالي الحركات والسكتات على نحو منتظم في فقرتين أو أكثر من فِقَر الكلام ، أو في أبيات القصيدة (موسيقى الشعر العربي / د.محمود فاخوري/ منشورات جامعة حلب 1996 سوريا / ص 164٠) فإن مايحقق هذا الأيقاع في الشعر هو الوزن الشعري وفي النثر الفني الذي عُرفَ به العرب ، تكرار الكلمات المنتظمة في الفقرة الواحدة وفق صيغ بلاغية تزيينية كالسجع مثلاً ، أما الإيقاع الداخلي فهو يتمثل في القصيدة من وحدات ايقاعية تزيّن النص ، ويتكون الإيقاع الداخلي من تكرار صوتي ولفظي ومن موازنة وتحاور صوتي وغيرها من الوحدات الإيقاعية التي تساعد على إبراز جماليات النص ومعانيه ( ن.م ص 165) ومن الممكن إضافة التوازي والتكرار والطباق والجناس والاشتقاق والتمثيل إلى تلك الوحدات التي تحقق الإيقاع الداخلي الخاص بقصيدة الشعر ، وإذ يذهب بعض الدارسين والكتاب إلى ترحيل هذه الوحدات الإيقاعية إلى قصيدة النثر بدعوى استمدادها من الشعر لتحقيق شرعية الاسم الاول وهو (قصيدة) فإنه وَهمٌ يتنافى مع الشكل المتحرر من بنية السطر الشعري إلى الفقرة اولا و لأن هذه الوحدات الإيقاعية تُسقطُ قصيدة النثر في الرتابة والنمط المتكرر وهو ما تأباه هذه القصيدة وترفضه لأنها دائمة التمرد حتى على نفسها ، لذا وطالما أن الإيقاع بنية قارّة في النصوص الأدبية ، فلابد من تحقيق ايقاع من نمط خاص ومتحول في قصيدة النثر ، وان هذا الإيقاع سيتشكل على نحو اسلوبي وبنائي خاص بكل نص او بكل كاتب ، ولعل في الانتقال من المجاز البلاغي التزييني كالمحسنات وسواها إلى المجاز البنائي هو ما سيحقق ايقاع قصيدة النثر على نحو متحول ومتغير ، لذا فلكل قصيدة نثر إيقاعها الداخلي الخاص بها ، ولكل كاتب اسلوبه الخاص الذي يبني به قصيدته والذي يتحقق عبره ايقاع قصيدته الخاص ، وبمعنىٰ آخر ليس هنالك قواعدَ عامة يؤخذ بها لتخليق الإيقاع الداخلي المزعوم .