إدانة الحروب من خلال ثلاث نساء يحملن ذات الأسم

مريم

كاظم مرشد السلوم

باسل الخطيب يتحدى الحرب ويخرج فيلما سينمائيا مهما، اعاد السينما السورية الى واجهة النتاج العربي السينمائي، في زمن قل فيه النتاج السينمائي الجاد، فالظروف التي تمر بها البلدان الربيع العربي، قد اثرت كثيرا على واقع السينما فيها، سوريا هي الاخرى تعاني من مشاكل وحروب داخلية شرسة اثرت وبشكل واضح على كافة مفاصل الحياة الثقافية ومنها السينما.
مريم ليس بالفيلم العادي الذي يمكن ان يمر على المشاهد مرور الكرام، فهو فيلم جاد ومعمول بحرفية عالية، من مخرج ربما يكون قد تخصص في اخراج المسلسلات اكثر من تخصصه في الاخراج السينمائي، لكنه اثبت انه بارع في الاثنين.
حكاية الفيلم عن ثلاثة نسوة يحملن نفس الاسم، وهو الرابط الثاني بينهن بعد الرابط الاول وهو الوطن الام سوريا.
العام 1918 وبداية انتهاء الاحتلال العثماني لسوريا، الشابة مريم ذات الصوت الشجي « جسدت شخصيتها الفنانة لمى الحكيم «، تحاول مع حبيبها حسن ان تمنع الجنود العثمانيون من اخذ فرس حبيبها، لكن الفرس تقع في مستنقع وحل لا يمكن الخلاص منه.
تعود للبيت لتجد امها بانتظارها للذهاب الى بيت احد الاقطاعيين الذي يحب صوت مريم الشجي ، ويدعو لذلك العديد من الضيوف، في طريق ذهابهما الى بيت الاقطاعي ثمة جامع يحترق .
العام 1967 حرب حزيران واحتلال القنيطرة ودخول الجيش الاسرائيلي فيها، السيدة مريم « جسدت شخصيتها الفنانة سلاف فواخرجي «تحاول الخلاص من الجنود مع ابنتها بعد قصف الكنسية التي كانوا يصلون فيها، يحاول احد الجنود ” عابد الفهد « انقاذهن كنه يفشل فتقع الام بقبضة الجنود وتموت في المعتقل، وتبقى البنت مع الجندي السوري الذي يوصلها الى قريته لتعيش في كنف امرأة مسلمة، ويعود لكي ينقذ الام لكنه يقتل هناك / ثمة كنيسة تحترق.

العام 2012 مريم الفنانة الشابة « جسدت دورها الفنانة ديمة قندلفت « تعترض على ارسال جدتها الى دار العجزة، الجدة هي البنت « زينة « ابنة مريم التي انقذها الجندي، التي مرت عليها كل هذه المصاعب، وبقيت قوية وانشأت عائلة لكنها تتلقى عقوق الابن الذي ربت فتحكي لحفيدتها كل الذي مر بها.
مريم الاولى تستعد للغناء امام ضيوف الاقطاعي، لكن سقوط الشمعدان يحرق ثوبها ويحرقها ربما تكون هي التي اسقطته عمدا، حبيبها مازال يسحب الفرس التي تتخلص من الوحل بحركة طيران، وكان قوة خفية قد دفعتها للخروج، مريم تموت وحسن يخبرها ان فرسه قد خرجت من الوحل.
الانتقال بين الفترات الزمنية الثلاثة بين الحين والاخر كان يتم بشكل انيق، ورسم المشاهد بدا وكأن فنان تشكيلي هو من رسم هذه المشاهد بدقة متناهية، باسل الخطيب ادار العمل بحرفية الكبار، فلا تجد اسفاف او مشاهد زائدة عن الحاجة، بل هي مشاهد مع الحبكة الدرامية للفيلم، وامسك بخيوط الحكايات الثلاث بشكل اخاذ، فما ان تنغمس في الحكاية الثانية او الثالثة حتى يعديك الى الاولى من خلال مشهد ربط منطقي لا تشعر معه ان ثمة قفزة قد اربكت التسلسل الدرامي للفيلم.

تأويل النص المرئي
باسل الخطيب الذي كتب قصة الفيلم بالاشتراك مع شقيقه تليد، وظف النص بدلالات كثيرة ، لعل اهمها هو ان سوريا الارض، سوريا الوطن ، لم تسلم من العدوان الخارجي، العثماني بفترته الطويلة وقسوته وبطشه ، والاستعمار الفرنسي بكل تناقضاته واختلافه عن المحتل الاخر والابرز « بريطانيا العظمى « التي احتلت الجوار ، وتقسيم سايكس بيكو الشهي، ثم العدوان الاسرائيلي والاحتلال لأجزاء من الاراضي السورية لحد الان، لكنه اي الخطيب لم يرد ان يقول ذلك عن سوريا الان بشكل مباشر، بل قالها من خلال دلالة واضحة ، وهي جحود الابن لأمه، الام هي سوريا والابناء غير الأبهيين بمصير امهم .
مريم الاسم، عنون الفيلم، لم يختره الخطيب اعتباطا، بل استخدمه لدلالته المقدسة، كذلك كونه اسم مشترك يسمي به الناس بناتهم رغم اختلاف الاديان والمذاهب، اذن هو الاسم الجامع للفرقاء.
دلالة استخدام المؤثرات، واضحة في فيلم الخطيب، بعضها نكأ الجراح، جراح الحرب ، المستمرة، جراح الجحود، جراح الماضي التي لم تلتئم لحد الان، فالموسيقى تخرج من بين اغصان الشجر ومن جدران البيوت، صوت المطر وتساقطه المستمر يبعث الشجن، كأنك تشعر صوت السياب يردد « أتعلمين اي حزن يبعث المطر ، وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر « .
الفرس التي لا تقبل ان تبقى اقدامها مغروسة في الوحل، سوريا لن تبقى في المأزق الى ما لا نهاية، كل هذه الدلالات التي ارسلها النص المرئي، دلالات نستطيع من خلالها تأويل نص الخطيب المرئي.

الحكايات الثلاث
باسل الخطيب وظف البيئة والطبيعة السورية بشكل رائع فرغم قسوة الحكايات، الا انك تستمتع بالمشاهد الجميلة للطبيعة السورية، وهو فعل مقصود حيث يذهب بك الى ان تقارن بين جمال المكان وقبح الحروب وقسوة الناس.
التقنيات الحديثة التي وظفت في الفيلم ساهمت والى حد كبير في صنع مشاهد مؤثرة، خصوصا تلك المشاهد التي تمهد للانتقال عبر الفترات الزمنية الثلاثة .
نجوم الفيلم « اسعد فضة، نادين، سلافة فواخرجي، ديمة قندلفت، لمى الحكيم « هم انفسهم نجوم الدراما السورية بمسلسلاتها الشهيرة، وهم يفهمون تماما ما يريده باسل الخطيب، كذلك هو الاخر يعرف امكانية كل منهم، لذا لم يجد الخطيب صعوبة في توجيههم وتحريكهم ضمن عديد مشاهد الفيلم .
يقول الخطيب عن فيلمه مريم « أن هذا الفيلم يحمل مضمون جديد يتوافق مع الشكل الجديد فهو عبارة عن رواية لمجريات أحداث أفلام ثلاث ضمن فيلم واحد، وتابع بأن هذا الفلم ما هو إلا اسقاطٌ للتاريخ وتكريس فكرة أن التاريخ يعيد نفسه فما حدث بسوريا عام 1918 عاد اليوم من جديد.
اخيرا ما يحسب للفيلم كذلك انه انتج في هذه الفترة العصيبة التي تعيشها سوريا، كون انتاج فيلم سينمائي ليس بالأمر الهين في ظل ظروف عادية، فكيف الحال مع ظرف سوريا العصيب، انه التحدي الذي قبله باسل الخطيب وكادر عمله، كذلك هو التحدي الذي قبلته المؤسسة العامة للسينما السورية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة