الشعب كما هو معروف مصطلح يطلق على مجموعة من الافراد أو الاقوام، يعيشون على ارض واحدة، يرتبط افراده بعقد اجتماعي وسياسي، يستند الى قاعدة من المشتركات التاريخية والنفسية والثقافية. ومن لديه اهتمام جدي بتاريخ العراق الحديث والذي ولد في العام 1921، يعلم جيدا ان الوطن الجديد، الذي امتدت تضاريسه من الفاو لزاخو، احتضنت عددا من الشعوب، لأسباب تم التطرق اليها كثيرا، لم يوفقوا جميعا لا في صناعة امة عراقية ولا دولة وطنية حديثة. عندما نتفق على ذلك، سنكتشف حجم الزيف والاضاليل الرائجة والمتداولة في المشهد الراهن، وبنحو خاص عند من ادمن الاستثمار في حقول هذا المفهوم الهلامي “الشعب”. في الآونة الاخيرة تم توريط هذا المفهوم بعلاقة مع احد أشهر عناوين حقبة الفتح الديمقراطي المبين أي “الكتلة الاكبر” لينضم الى قاموسنا السياسي شعار لم تعرفه الديمقراطيات من قبل الا وهو “الشعب هو الكتلة الأكبر”..! شعار لا يحتاج الى جهد كبير لفك طلاسمه، وكشف تنافره وحال واحوال العراقيين الفعلية، حيث التشرذم الطائفي والاجتماعي والاثني يضرب اطنابه في كل تفاصيل الحياة في هذا الوطن المنكوب، بكل أشكال الانظمة والذهنيات والعقائد الشمولية.
هذه الذهنيات وسكراب السرديات والشعارات والمناخات، هي من شرعت الابواب امام هذا الكم من الحالات والمشاهد، التي طفحت على مسرح احداث عراق ما بعد الاحتجاجات، حيث يتصدر شعار “اغلق باسم الشعب” وغير ذلك من محاولات تطويب اسم الشعب وصوته وقبضته وارادته ومشيئته و… لصالح فئة او شريحة او جماعة ما مهما بلغ عدد اتباعها. بغض النظر عن طبيعة نوايا مثل هذه الاندفاعات للتصرف كممثلة للشعب، الا انها تحمل بين ثناياها بذرة نسخ جديدة من العبودية والاستبداد. فعبر الغاءها لمنبع قوة المجتمع وحيويته “تعدديته وتنوعه وثراءه الاجتماعي والثقافي” انما هي تعيد انتاج التجارب التوتاليتارية شاءت ذلك أم أبت. لا يتناطح كبشان على ان التحدي الاساس الذي يواجهنا كمشروع “امة عراقية” يتمحور حول موقفنا من “التعددية” وما يتجحفل معها كمنظومة قيم وتشريعات ومؤسسات، وفي الموقف منها سيتحدد مصير الوطن وشعوبه من شتى الرطانات والهلوسات والازياء.
على الاجيال الجديدة ادراك اهمية التعاطي بوعي ومسؤولية مع مثل هذه الشعارات، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ ما جدوى المطالبة باجراء انتخابات مبكرة، اذا سمحتم للبعض بالتحدث مسبقا باسم الشعب، أليست الانتخابات هي الوسيلة الدستورية والشرعية التي تتيح لنا فك الاشتباكات بين فئات المجتمع واطيافه المختلفة بافضل السبل وأقلها تكلفة وجهد، والوصول بالتالي الى رأي الامة “بوصفها مصدر السلطات” أم ان تلك الجماعات تعد نفسها فوق الشعب والقوانين والتجارب والدستور. علينا الاتفاق جميعا على ان الانتقال من حطام أبشع نظام توتاليتاري الى آخر ديمقراطي، وفي مثل امكاناتنا المتواضعة جداً؛ ليس بالامر اليسير، وتجربتنا الفتية قد خبرت ذلك بشكل قاس ومرير، وهي لن تتحول الى تجربة مثالية بين ليلة وضحاها، او كما يروج البعض، عبر تحقيق نصر نهائي وغير ذلك من ترسانة السرديات التي تقسم الشعوب والمجتمعات الى فسطاطين وما شابه ذلك من تسطيح لمثل هذه المراحل الانتقالية المعقدة والمريرة في حياة المجتمعات والدول. نحتاج الى الكثير من الوقت والجهد والوعي، كي نجتاز امتحان تقويم التجربة لا تقويضها، “لان الطريق الى جهنم معبد بالنوايا الحسنة”…
جمال جصاني