نهى جعفر
يغازل الحرف معناه في النصوص التي تنوي أن تفتح بابا بين الحقيقة والخيال ليجسد خصوصيته وبصمته على أعتاب تلك البوابة وفي ذلك تكمن فرصة التميز وشخصنة النص لكاتبه….
ولعلنا نتفق أن للشعر لغة وللسرد أخرى , فالنص محكوم بلغة تكونه لا يكونها هو من خلال نسجها وترتيب علاقاتها الحضورية والغيابية ومن خلال المادة والإجراء.
والقارئ لقصص الزاملي يجدها تنماز بغناها الفني واللغوي, بتلك اللغة التي لم تبتعد عن ربط خيوط رفيعة مع كونه شاعرا أولا, إلا إن تلك اللغة لا تنأى بمادتها عن القص بل تنسج بينهما وبكل براعة نصا قصصيا مدهشا على المستوى اللغوي والدلالي لا يخرج عن إطار فنه بل يتداخل معه ليقدمه بنكهة لا تكون إلا للزاملي .
«الآن فقط عرفت بأن الرقص يرافق كل شيء الموت, والحياة, لحظة الذروة , الطيور , الأشجار الرياح , البحار «
من قصة الرقص على مفترق الأصابع.. يضفي الكاتب صفة الحركة على جميع تلك الأشياء التي ذكرها ولكنها ليست الحركة التقليدية التي نعرفها مرافقة لاهتزاز الأشجار وحركة الطيور بل هي حركة مؤطرة بإطار شعري (الرقص) فتنحرف دلالة المفردة عن الحركة القاموسية لاهتزاز تلك الأشياء , بل يضفي عليها نوعا من الأنسنة من خلال قصدية الحركة التي هي الرقص, ولعل الدلالة الجديدة التي اكتسبتها تلك الحركة قد اختصرت الكثير من المفردات في تقريب الصورة الذهنية التي كان يرمي إليها على اختلاف مدلولاتها بين رقص الحياة ..ورقص الموت ..ورقص الطيور والبحار….. فلكل رقصة دلالة بعينها.
وبين عقد تلك الدلالات يتحقق شرط اللغة المكثفة التي تتقيد بها القصة القصيرة تجاوبا مع السقف الزمني المحدد لها يخضع لغتها لكثافة شديدة تجعلها تقترب من لغة الشعر بل تتسرب إليها في أحيان أخرى ..بحدود تحتفظ للكاتب ببصمته الخاصة ؛ فاللغة هي البصمة التي تميز مبدع من آخر وهي التي تضمن له خصوصيته في النص.
وفي ذات القصة التي بين أيدينا يستحضر الزاملي لوحتين مختلفتين لمشهد واحد :
«في تلك اللحظة خامرني شعور غريب وتوضحت لي عذوبة الأصابع عندما تتشابك مع أخرى , كانت الأصابع فيما مضى تخيفني وتبعث في قلبي قلقا مازال يرافقني حتى الآن ؛ كيف يمكنني نسيانها لقد بصمت بها على أوراق التحقيق البيضاء بعد سنوات من الاعتقال».
مشهد الرقص أثار في ذهن الشخصية مشهدا آخر مختلف تماما عن الأول على أنهما يبثان ضمن حلقة واحدة هي حلقة الأصابع ومن خلال زج القارئ في حدث ومكان وزمان مختلفة تماما عن بعضها إلا أنها تحدث في مكان واحد وزمان واحد وحدث واحد , تلك الطاقة الداخلية التي اختزنها ذلك النص من خلال الانزياحات التي جعلته أقرب بكثير من النص الشعري ولكنها لم تنحرف إليه لتفقد القص خصوصيته بل تتحد معه لتقدم نصا متميزا , وهذا مما يحسب للكاتب ذلك أن سحر الشعر يغري الكثير من كتاب القصة إلى درجة تتماهى فيها لغة السرد الحكائي مع لغة الشعر وتضييع حدود الكتابة على حد قول عبد الرحمن ياغي .
«كنت أتساءل مع القمر عن أصدقائي وأهلي وأصارح الشمس عن معشوقتي الوحيدة التي لم أنسها حتى الآن»
«ها نحن نسير مع مدينتنا بلا هدف, نشيخ قبل الأوان ونموت في النهاية بالقرب من أحلامنا ليدفن بعضنا بعض في أزقة صنعت نفسها خصيصا لتلك المهمة وأصبحت شيئا فشيئا مقبرة ليس لها أصدقاء ولم يجرؤ بكاء أحد أو حتى عابر سبيل من الوقوف مجرد الوقوف أمام أطلالها الهرمة»
في قصة (هروب ليس ببعيد)أنفاس الشاعر تبدو واضحة في هذا النص المزدحم بالصور التي وظف خدمة لها لغة تتجاوز دلالاتها القاموسية وكأن للقمر والشمس آذانا تصغي لحديث الشخصية الداخلي وتشاركه في استرجاع ذكرياته, وأحلامه التي دفنت مع المدينة التي شاخت وتفاصيل المقبرة التي أصابها الهرم وكأنهما آدميا يخضع لفعل الزمن فيتركه هرما بعد مروره الثقيل على تفاصيل حضوره ….
وفي قصة (حذاء الملك) يتجاوز النص الانزياحات لتقديم مستوى تفكير لدى مخلوقات أخرى , خوفها , قلقها , وكيف يضع الكاتب اصبعه الفني على مستويات الذكاء لدى تلك المخلوقات في تحليل الحدث واختلاف زوايا النظر في طرح الحلول والراوي يتحدث عنها ويقدم حواراتها وخوفها وقلقها مما يبدو لنا سخيفا الا انه هول مفزع يمس وجودها ومملكتها :
«الخطر محدق من كل صوب, علينا الابتعاد عن مناطق الحفر والبناء والأحذية , نعم الأحذية «
وربما حملت الفكرة مدلولات أخرى تحيل على إطارات أكثر اتساعا تشمل عمومية الاتفاق على التعاون في حماية المملكة بغض النظر عن مكوناتها وأفرادها…
يقدم الزاملي صورا رائعة من القص المزخرف بلغة الشعر تحفظ للشعر لغته وللقص حدوده مكونا بصمة خاصة ينماز بها بين أقرانه ضمن نطاق هذا الفن .