عيدك يا أمي

فيصل خرتش
انتقلنا إلى مدرسة سعد الله الجابري الواقعة في محلَّة قاضي عسكر بعد الساحة بقليل، من مدرسة ساطع الحصري التي كان يتعلم فيها الأولاد الصغار، فقد كانت تعلِّم حتى الصف الثالث الابتدائي، ثمَّ ينقلون التلاميذ إلى عدَّة مدارس، لأنهم كانوا يخافون على المعلمات منَّا لأننا في اعتقادهم أصبحنا شبانًا، فالحرص واجب، ومدرسة سعد الله بناء مدرسي فخم يليق بنا أن نسميها مدرسة، بينما تلك هي بيت مستأجر في حلب القديمة.
وسعد الله الجابري له ساحة باسمه تقام فيها الاحتفالات والمسيرات، وقد أقيم فيها تمثال له وضع في جنوبها، كما وضع أحد الفنانين نصبًا للشهداء في وسطها، هذا بالإضافة إلى المدرسة، وسعد الله هو واحد من السياسيين أيام الزعيم إبراهيم هنانو الذي كان يقود الثورات ضدَّ الاستعمار الفرنسي.
تتألَّف المدرسة من بناء ضخم يدخل إليه من الباب الخلفي المخصص لنا نحن التلاميذ الذين أصبحنا كبارًا، وهي تضم الفصول من الرابع حتى السادس، فيها باحة واسعة تسع لقبيلة هي وإبلها وأغنامها ومضاربها ورجالها ونساؤها والأولاد الصغار والكبار، إنَّها تحتويهم جميعًا وهم يذهبون إلى الغزو ويعودون، بها حديقة ياما اختبأنا فيها من دروس الحساب، أمَّا دروس مادة العربي فقد كنا نحبها ونحبُّ المعلمين الذين يدرسونها.
لها باب يدخل منه المعلَّمون والإداريون والموجهون التربويون، ومن يلوذ بهم، وكذلك الآباء والأمهات الذين يأتون عندما يكون أحد التلاميذ لم ينفع به التأديب فيطلبون ولي أمره كي يعطوه إنذارًا أمام ولي أمره، والمدرسة على شكل مثلث، رأسه عند الإدارة وضلعاه يكوِّنان الفصول: من الرابع على اليمين والخامس على اليسار، أما السادس فيقع بجانب الإدارة، ولكل من هذه المجموعات ثلاث فصول، وبها مخبر ننزل إليه في دروس العلوم، وعلى السطح توجد مدجنة تضم الحيوانات مثل الدجاج والأرانب والسلاحف وغيرها، وأمام الباحة توجد مصطبة مرتفعة كانت تقام فيها كلَّ يوم مراسيم تحية العلم، وأيام الانقلابات العسكرية يقف أحد المعلمين ويصرخ فينا ويبرهن أنَّ هذا الوضع أفضل من السابق، وأنّ القضية الفلسطينية هي جزء لا يتجزَّأ من القضية العربية، والنظام السابق قد فرَّط بها، وهذه الثورة، هكذا يسمونها، سوف تحقق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم التي اغتصبها العدو الصهيوني، وينتهي الاحتفال بالنشيد العربي السوري.
وصلت إلى الصف الرابع، المجاور لحديقة المدرسة، وانتظمنا بالدوام، وحلَّ علينا شهر آذار/ مارس وفيه يبزغ الخضار والزهور تتفتح والأشجار تورق، إنَّه الربيع، وفي هذا الفصل يوجد عيد الأمِّ أحلى الأعياد، كنَّا نذهب إلى المدرسة، وهي تفتح أبوابها في هذا اليوم، فلا توجد عطلة كما في هذه الأيام، وحضرت إلى المدرسة بعد أن أنهيت القضايا الشخصية ومشَّطت شعري وأفطرت شايًا وزعترًا.
الحصة الأولى علوم وأخذنا درسًا عن السلحفاة، والحصة الثانية حساب، جمعنا وطرحنا، وبعد ذلك رنَّ الجرس فخرجنا نركض في الباحة ونتهاوش، ثمَّ رنَّ الجرس معلنًا انتهاء الفرصة، أسرعنا إلى أمام المصطبة لتحية العلم، وردَّدنا الشعارات ثمَّ اتجهنا إلى الصفوف، جلسنا في المقاعد والمناوب سجل أسماء المعجزين، وعندما دخل أستاذ اللغة العربية، أعطاه إياها، لكنه لم يأخذ بها، وكان الدرس عن عيد الأم كما هو مقرَّر، أخرجوا الدفاتر، من سيتكلم عن هذه المناسبة العظيمة، إنَّه درس تعبير، تفضل، وأشار إليَّ باعتبار أنني شاطر في اللغة العربية، خرجت ومعي دفتري، ووصلت إلى أمام السبورة، وقفت وأخذت أقرأ، وقلت: عيدك يا أمي من أجمل أعياد السنة ففيه تكونين أنت المضحية وأنت التي تسهرين حينما نمرض، والأم مدرسة لنا، هي التي تربي وهي التي تتعذب كلَّ اليوم، إنها كالشجرة التي تعيش وتفنى ولا أحد يدري بها، إنها تربي المقاتلين الشجعان الذين يضحون بأرواحهم في سبيل الأوطان، إنها التي تصنع المهندس والمعلِّم والمخترع والبنَّاء، وهي أمُّ الحضارة، فإليك يا أمِّي أحلى الأماني في هذا العيد، الأم هي فصل الربيع، وهكذا تابعت في القراءة حتى أنَّ الأستاذ قد قرب كرسيه وشنَّف أذنيه وهو يستمع إليَّ، وعندما أنهيت القراءة، قال: الله ما أجمل هذه الكتابة، هات دفترك، وأزاح جسده لتكون الطاولة أمامه، لكني تلجلجت وأنا أعطيه إياه.
نظر إليَّ وإلى الدفتر، وكان استغرابه كبيرًا، وأعاد النظر إلى كلينا، وأنا خفت من الضرب على يدي، فقد كانت العصا موضوعة على الطاولة، مكتوب عليها (أمُّ أحمد) قال: أين الموضوع؟ فقلت له: أستاذ أنا لم أكتبه، وقال: من أين كنت تقرأ؟ قلت: من عقلي… ذهل الأستاذ من تصرفي، وكان ينظر إلى الصفحتين الفارغتين، وهنا طلب من التلاميذ التصفيق وشرح لهم الأمر، بأنني لم أكتب موضوع التعبير وقد قرأته لهم من ذاكرتي، وتمنى من التلاميذ أن يفعلوا مثلما فعلت، ثمَّ أخذ قلمًا أحمر وراح يدوِّن على دفتري، وكتب على الصفحتين بأنني سيكون لي مستقبل رائع، وأستطيع أن أبشر الجميع بأن الحياة سوف تضجُّ عندما تعرفني في المستقبل، ولا أستطيع إلا أن أقول بوركت أيها الطالب النجيب، ثمَّ صار يأخذني لشراء القصص والكتب المصورة، ندور على المكتبات ويقوم بشرائها، وقد وكلني بجمع مبلغ من التلاميذ لشراء هذه الكتب وكنت أقوم بجمع ربع ليرة من المتأخرين، بالإضافة إلى المتبرعين،، وبعد ذلك نذهب إلى سوق الكتب، لقد أصبحت أمين المكتبة، تلك التي في الخزانة، أعير التلاميذ وأقوم بجمع ربع ليرة عن كلِّ كتاب يأخذونه.
مرت الأيام وأصبحت شابًا، وإذ ذاك لمحت مدرِّس اللغة العربية، كان قادمًا من دار المعلمين، فقلت: أتحرَّش به، وبعد التحية والسلام، سألته ماذا يدرس فيها، قال: تربية وعلم نفس، ثمَّ أخبرته عن الحادثة التي صارت في درس التعبير، وكيف أنَّه ملأ لي صفحتين بالقلم الأحمر، بأنَّه سيكون لي مستقبل رائع، وأنَّني سوف أرفع اسم البلد عاليًا.
قال: هل تقرأ؟ قلت: طبعًا وتوجد عندي مكتبة، قال: هذا يكفي وزيادة…
مدرسة سعد الله الجابري الآن مخرَّبة من قصف الطائرات التي كانت تلقي البراميل عليها، لا يوجد فيها تعليم ولا تلاميذ ولا معلمون، إنها كتلة خراب صامتة، بسبب الحرب التي كانت.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة