الشعر والنثر وما بينهما

سلام مكي
قديما شبّه العرب الشعر بالرقص والنثر بالمشي. ولعل التشبيه هنا له عدة دلالات ومعانٍ، فالمشي ممارسة حياتية يومية، يمارسها الجميع، دون عائق، ولا تحتاج الى جهد أو خبرة، ويمكن لأي أحد سليم البنية أن يمشي. أما الرقص، فليس الجميع يمكنه ذلك، فالراقص لابد من خبرة وموهبة فطرية. ولابد من قدرات خاصة تؤهله للرقص. وكلما استخدم مهاراته وخبراته في الرقص، كلما خرج بنتيجة إيجابية. كما أن تشبيه الشعر بالرقص، يعود الى وظيفة الشعر الأصلية التي كانت تتمثل بالإنشاد، حيث أن الشعر وجد أساسا لكي ينشد ويغنى، ولم يوجد لكي يقرأ. كما أن الشعر يحتاج الى موهبة واتقان وصنعة من الشاعر، حتى يمكنه أن ينتج شعرا يؤثر في المتلقي، ويساهم في الولوج إلى أعماق روحه ودواخله، وإلا فإن الكلام لا يقال له شعرا، إن لم يترك أثرا في نفس المتلقي. والرقص كذلك، يحتاج الراقص الى القيام بمجموعة حركات لكي يتمكن من جذب انتباه المشاهد. ولعل الرقص يحتاج الى نظام خاص، وحركات محسوبة ومقدرة، لا يمكن للراقص تجاوزها، فهو لا يتحرك عبثا ولا جزافا، بل يتحرك وفق مقاسات معدة سلفا، وأي اخفاقة أو خروج عليها، يعني هدم العملية كلها. كذلك يصاحب الرقص الصراخ والصخب والانفعالات والتوجسات الداخلية للمتلقي. بينما المشي، يعد ممارسة اعتيادية، غير محددة بضوابط معينة، ولا تحتاج الى مجهود خاص، وغير مخطط لها مسبقا، فتبدو أمرا عاديا للجميع.
الشعر قديما وحسب النظرة النقدية العربية، هو الكلام الموزون والمقفى وله معنى. وأي كلام ينحرف عن مسار العروض الخليلي، لا يعد شعرا. لذلك على الشاعر العربي أن يلتزم حرفيا بما جاء به الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولا سبيل له للخروج من القالب الخليلي، لو أراد أن يطلق عليه صفة شاعر، حتى لو كتب كلاما يترك أثرا شاسعا في الآخر، ويخترق الروح، بألفاظه ورقته وعذوبته، فهو إنما يكتب نثرا جميلا. بالمقابل، فأي كلام ينصاع للنظم، ويجري في السواقي المرسومة له سلفا، فإنه سيكون شاعرا، حتى لو كانت الكلمات حجارة لا روح فيها ولا حركة.
اليوم وبعد تغير إيقاع الحياة، واختلاف النظرة النقدية والحياتية للشعر، لابد لنا من إيجاد تشبيه جديد للشعر والنثر، لابد من إيجاد فعالية حياتية يمارسها الفرد، لنطلع عليها صفة الشعر، تكون بين المشي والرقص. فالشاعر اليوم، لا يريد الرقص ولا المشي، بل يريد أن يتحرك بخطوط يرسمها بنفسه، تختلف عن كل الخطوط الأخرى، يسير بخطى خاصة به، صاغتها له حياته وانفعالاته، لتجعل منه انسانا مختلفا، سائرا في طريق صنعته بنفسه، فصار كائنا لا يشبه غيره. ولعل قصيدة النثر أو النص المفتوح يجعل من الشاعر كائنا فريدا من نوعه، فهو يمشي لكن بطريقة غير مألوفة للجميع، ويرقص دون أن يلفت انتباه أحد، يختار حركاته بعناية تامة، دون موجه خارجي، بل إن انفعالاته هي من تحدد له الطريق الذي يتحرك فيه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة