هيثم همامون
الوقت صيف، بينما كنت أنتظر الحافلة، شدّني ظل جانبي جنب الطريق، ومضت المكنسة تدحرج حصيات خشنة، والغبار يتطاير في الهواء على بعد أمتار. كادت مكنسته تسقط من يده المرتعشة، تتدفق منها شعب عرق كصف طويل من النمل، وكان صوت الظلّ مثل أصوات الليل نتفقد ما فيه دون جدوى، إن هو أبعد مهوى دلو في بئر عميق. تصاحب دقات طبل سنين بعيدة. والوجه تسلّخت حيطانه وتشققت جدرانه وبهتت ألوانه. ارتمت يد الظل تجمع ما خلّفه الرّاجلون في الطريق، ساقه الوحيدة كأنها عود ثقاب تقشر عنها اللحاء. اعتدل في وقفته بعد انحناءات عديدة، ونظر إليّ وهو ينتشل أنفاسه ويلقيها في وجه ضوء الشمس الحارّة. ارتخت ذراعه عن مفصله الضعيف حتى كادت ثيابه تسقط عن ظهره من شدة الهزال.
وكما يُقال في تراثنا “الضعيف أمير الركب”.رأيت في حقيبة الحياة أن لا قيمة لها في موازين القوى، وفي الوقت نفسه تكاد تطير في الهواء لخفتها ورشاقتها. ولا أظن أن الظل سوف ينسى أبدًا دموع النوافير على ضوء شموع الحياة. وبدأت مخالبه تتتالى على رحم الأرض في عمل دؤوب كأن بينه وبين المارّين جدارًا متينًا راسخًا في الأرض. وكنت أريد أن أسأله. لماذا يحمل هذه المكنسة وهو لم يستفد منها شيئًا. ربط حذاءه المهترئ بحبل بال بصعوبة يعيد له كلّ الاهتمام، ثم سمعت قعقعة سنابك الخيل…انتبهت لظلمة وجهه الثابتة في الشمس، أبدًا لم يتعب، ولمحت نظراته تتلقف كومة هنا وهناك، بين الظلال والطرقات والأرصفة. وصلت أخيرًا إلى موقف الحافلة، أنتشل حقيبة ثقيلة طوال الطريق. تلاقت الأعين في لحظات حتى اخترقتني قرنيته البعيدة تحت شمس الظهيرة. يتوكأ علىرِجل لقلاق وحيدة ويعتمد على عكاز خشبي آيل للانكسار. بدت ملابسه المهلهلة تصطك بفعل ريح أعين الناس الهادئة. ينخفض ويلتقط كيسا بلاستيكيا بين أحضان كف متيبّس، شاخت اللحظة وشخت معها، لا يبالي إلا بسحب أنفاس متقطعة تارة وخفيفة تارة أخرى. يجوب الشارع بطرف رجل وجبهة معروقة. يصافح أحيانًا بابتسام، وخلا لبرهة إلى ظل شجرة كستناء شامخة جنوبيّ المقهى. جلست، ثم رفعت الحقيبة إلى صدري في توجس. أنتظر رحلة العودة إلى الديار، ولا أدري أ كان لابدّ أن يعمل في هذا الوقت؟ وما سرّ كل هذه النفس المفعمة بالحياة وهي تلاقي أطنان القاذورات. استجمع الشيخ قواه، مطّ لحيته البيضاء، يشوبها بعض الشباب، ثم دعر إلى رأس الشارع بمكنسته يمخر عُباب الغبار.
لم أتعرف عليه عندما اقترب إلى ناحيتي، فقد كانت نظرته تسيل فيها شلالات هادرة. توكأ على عصاه السحرية يشطب كل ما في أنفسنا من دنس. لم يبق حاجز بيننا، تطلعت إلى سحنة طائرملكحزين في حقل مترامي الأطراف كفزاعة طيور، تحت سماء زرقاء عريضة بلا غيوم، عارية تمامًا. في كل مرّة يمسح بباطن يده بقعًا سوداءَ ترسّبت بجبهته الضئيلة، وببدلتهالممزقة الصفراء. قلت في نفسي: ما أجملها من هيئة! غبار، حذاء مهترئ معقود بعقد مرخية، وجه وضّاء تغطيه طبقات مختلفة من غبار الحياة.
حكّ قدميه بالأرض، ومازال يمسك بيدهالمكنسة، فأسمع طقطقة المكنسة وهي تتحطّم على الأسفلت الخشن. تهتزّ ذراعه ويتردّد السعال في الشارع، له صدى بعيد، رغم الضجيج، رغم دخان السيارات وضوضاء الباعة…أسمع وقع خطواته كظلّ خفيّ يصارع النور. ورأيت قروحًا مميتة، ثم حولت بصري إلى داخل الظلّ،كأنه وتر مازال مشدودًا.طفق يفرك راحتيه المتعرّقتين، لا تكادان تتماسكان، ترتعشان تحت وطء قواهما المادية…حتى في السبعين يودّ المرء أن يعيش. بدأ ينظر إلى الجهة التي مضى نحوها فرأى نفسه كعلبة سيجارة عتيقة مهملة. وسط هذا الموات تعيش الحياة أحيانًا دفقات سعادة يتيمة منكمشة. وفي لحظة ما انزلقتْ حقيبتي، وكنت أريد أن أسأل نفسي: لماذا نحمل تلك الأوراق التي لم نستفذ منها شيئًا؟ وفي الوقت نفسه تكاد تطير في الهواء لخفتها ورشاقتها، والشارع تسلّخت حيطانه تمامًا، وتشققت جدرانه وبهتت ألوانه. وأنتِ أيتها الأضواء الشاحبة مازلتمثينة راسخة في الأرض. وأدركت فجأة أنني بجوار ظلّ بطل.
ظلٌّ بطل
التعليقات مغلقة