د.حياةعلي
لطالما كانت اللّغة عند الأمم وسيلة مهمّة وحتميّة للتعبير عن أفكارهم، وطريقة فعّالة للتفاهم بينهم، فهي بالنسبة إلينا – نحن العرب – دعّامة حياتنا الأساسيّة ومظهر رائع للتماثل بالتفاهم بين الشّعوب العربيّة، فهي أكثر ممّا يمكن وصفها بأنّها أداة للتفكير وطريقة ترجمته على أرض الواقع بل هي أيضاً شعورٌ متبادلٌ، فاللّغة قادرة تمام القدرة على توفير امكانيّة العيش للأفراد في مجتمع انسانيّ معيّن بحكم تغلغلها في حياة الفرد الكلّيّة؛ إذ وهبت تلك اللّغة للفرد الحياة العقليّة فجعلته يستعمل عقله إلى أقصى الحدود حتى يبلغ ذلك الاستعمال ذروته؛ إذ بها استطاع أن يطوّر نفسه ومدينته ومجتمعه في الميادين كافّة فيصل بنفسهِ من طريق اللّغة إلى القمّة.
لا بدّ ونحن نكتب عن استعمال اللّغة العربيّة في التعليم العالي من الربط المحكم بين غاية هذا التعليم والوسائل المستعملة فيه، فمتى ما تبيّن لنا كفاءة تلك الوسائل وصلاحيّتها التّامة للاستعمال اللّغويّ وصلنا بها إلى الغاية الرّئيسة ونبذنا كل ما يقف أمامنا من عقبات تحول بيننا وبين الأهداف المرجوّة.
ونحن نؤمن أنّ الواجب القوميّ اليوم أو غداً يفرض علينا أن نعمل معاً على تخريج باحثٍ علميٍ بخلفيّة لا يشوبها غبار، ومن ثمّ مجتمع عربيّ راقٍ مواكباً للتطوّر، وأن نعمل جاهدين على أن يكون المتخرّج العربيّ صحيح اللّسان، سويّ اللّغة، مثقف الأفكار والأسلوب، مدرك لذاته، واعٍ لواقع امّته، ماسكاً بزمام التعليم والبحث العلميّ وجاعلاً من اللّغة الوسيلة المهمّة والأداة الحيّة للسير في سبيل تحقيق كل ذلك.
إنّ تعلُّمنا للّغة الصحيحة والسليمة في المؤسّسات التعليميّة هدفه المباشر هو القضاء التام على التخلف والمحافظة على أصالة الأمّة مع الافتخار بالانتماء إليها والاعتزاز بتراثها؛ إذ إنّ من علامات النجاح في التعليم أن يستطيع الأخير المواءمة بين العلم بأوسع أبعاده وبين الأوضاع التأريخيّة والاجتماعيّة والقوميّة للأمّة العربيّة، فهو بتعبير أدق يجعل من أبناء الأمّة العربيّة علماءً قادرين على متابعة أرقى ما يصل إليه العلم في اختصاصاتهم المختلفة من دون أن يفصلهم عن مسيرة امّتهم – حاضرها ومستقبلها – فهم عربٌ قبل أن يكونوا علماءً، وهم علماء ولكن يعملون في خدمة الأمّة العربيّة.
إنّ الجامعات والمعاهد والمؤسّسات التعليميّة كافّة هدفها الأساس من دون أدنى شك خدمة الفرد والمجتمع خدمة ثقافيّة تربويّة تعليميّة، فمن أجل هذه الأمور أُسّست وتوسعّت متّخذة من اللّغة الأساس المتين والرّابط الفعّال بين الطالب وأفكاره، فالفرد العربيّ يفكّر آليّاً باللّغة العربيّة ما دام موجوداً في جوّهِ العربي؛ إذ إنّه من الصعب أن يفكر الطالب بلغتهِ التي نشأ عليها ويتحدّث بغيرها فيضيع بذلك قسماً ليس بالقليل من جهده في النقل والترجمة، فمهما بذل من جهدٍ لن يتمكّن من الحصول على الكمّية نفسها من الحقائق والمعلومات التي كان من الممكن الحصول عليها لو كان الحديث بلغتهِ، فالتعليم بغير العربيّة يلقي في نفوس الطلّاب فهماً مفاده أنّ لغتهم غير ذات نفعٍ وأنّها لا تصلح أن تكون أداةً للتعلّم ووسيلة للبحث العلميّ، ويستمر ذلك المفهوم لديهم حتى يصير اعتقاداً فيُبنى بينهم وبين لغة قومهم وثقافة امّتهم وتراثها جدارٌ كبيرٌ يصعب هدمه وتتولّد بذلك نظرةٌ أنّ لغتهم قاصرة وعقيمة وغير مؤهّلة لأنّ ينقاد بها إلى القمّة وذلك غاية الأعداء لنا وللغتنا.
لا شكّ في أنّ أغلب جامعاتنا العربيّة تدرّس العلوم الإنسانيّة والآداب باللّغة العربيّة وتدرّس العلوم الطبّيّة والعلوم البحتة باللّغة الإنكليزيّة، وجميعنا نعلم أنّ التحدّي الّذي يواجه أي مجتمع حديث هو ما يسمّى بالعلم والتكنلوجيا، فإن أردنا أن ننقذ مجتمعنا من أي تخلّف فعلينا أن نقيمه على ذلك الأساس لكن أن يكون ذلك حصراً بثلّة قليلة من المثقفين باللّغة الأجنبيّة ونشر التعليم الأكبر بها يكون باللّغة العربيّة، وهذه دعوة لكلّ قيادة تعليميّة وسياسيّة أن تقف موقفاً حاسماً إزاء اللّغة العربيّة ومنع اضمحلالها وهيمنة اللّغات الأخرى على حساب تعلّمها وهي دعوة أيضاً لوسائل الإعلام في العالم العربيّ وتفعيل دورها في نشر اللّغة العربيّة بين الفئات الجامعيّة بالتعاون مع المؤسسات والهيئات المختصة كالجامعات والمجامع اللّغويّة دعماً منهم للغة العرب الخالدة فلا شك فيما للإعلام من دور فعّال في إيصال الأفكار بالسرعة الممكنة إلى أكبر عدد ممكن من الفئات المجتمعية فضلاً عن أسلوب الإقناع الممتزج بيقين الواقع.
إنّ الدعوة إلى سيادة اللّغة العربيّة في جامعاتنا ليس بدعاً ولا هو بالأمر الغريب، فهل من العجيب أن تتخذ الدول من لغتها القوميّة لغةً للتعليم العالي في جامعاتها؟ إنّنا نرى في استعمال اللّغة العربيّة في التعليم العالي شرطاً لتحقيق أي إبداع علميّ وربطاً للمؤسسة التعليميّة بالمجتمع العربي ورفعاً للمستوى الثقافي والعلمي للأمّة العربيّة، وهذه الدعوة ليست الغاية منها اهمال اللّغة الأجنبيّة في الجامعات ولم يكن القصد منها التقليل من شأن تلك اللّغات لكن على أن لا تسيطر تلك اللّغات على لغتنا العربيّة ولا ينحصر دور عربيّتنا على مادّة أو مادتين في منهاجنا التعليميّ، نعم أنّ اتقان لغة أُخرى يُعد جانباً من جوانب الثقافة ومواكبة للتقدّم الحضاري ولكن شتّان ما بين اتقان اللّغة الأجنبيّة وبين استعمالها بديلاً عن اللّغة العربيّة، ونحن إذ نرى واقع أفراد مجتمعنا وهم يتلفظون بألفاظ أبعد ما تكون عن عربيّتنا السمحاء بقصد التحضّر والتطبّع بعالم الغرب وهذا لعمري أشدّ قهراً على نفوس أهل العربيّة المُخلصين الذين يسعون جاهدين على اثبات أنّ اللّغة العربيّة قادرة على التعبير عن فنون العلم جميعها وأنّها قادرة أيضاً على استيعاب كل ما نُقل إليها من علوم الأمم الأخرى، فألّفوا كتباً وأقاموا دورات وندوات تثقيفية في مختلف مجالات اللّغة وأكّدوا على دور العربيّة وقدرتها الكبيرة على القيادة والاستقلال سعياً منهم إلى الحفاظ عليها وعلى أصالتها وجعلها على قمّة اللّغات، والاكتفاء بها وسيلة وأداة وغاية.
لُغتنا والتَعليم العالي
التعليقات مغلقة